يحيى محمد
ان من بين القضايا التي اثارت اهتماماً وجدلاً بين اينشتاين وميكانيكا الكوانتم ما يعرف بقطة شرودنجر التي شهدت بعض القفز والمداخلة بين عدد من الاطروحات التي تلوح العالم الجسيمي وما يتصف به الجسيم، وكأنها مراحل وتطورات مختلفة. ويمكن اختصار هذه المراحل التأويلية للشيء الجسيمي وفق العلاقة التالية:
امكان ← وجود ← مثنى مضاد ← تعدد بلا حدود.
فقد نجد بين الاطروحات الأربع السابقة شيئاً من التداخل والاكمال، مع شيء من الغموض يستدعي تأويلاً مركباً قائماً على تأويلها، فنحن نفترضها كمراحل متتالية. إذ رغم ان بعضها يشكل – بالفعل - حالة من التطور المرحلي؛ إلا ان البعض الآخر يعبّر عن اطروحات تتداخل فيما بينها، وتبدو وكأنها مراحل تأويلية متطورة.
لذلك سنتناول هذه الاطروحات وفق الفقرات الأربع التالية:
1ـ اطروحة عالم الإمكان الموضوعي
تبدأ هذه الاطروحة بما هو معروف من ان الجسيم لا يمكن تحديده بدقة، فحقيقته تظل إحتمالية تذبذبية - تماماً - قبل القيام بالكشف، كما يرى نيلز بور الذي اعتبر أنه لا يمكن الحديث عن الشيء أو التنبؤ بوجوده ما لم يتم الكشف عنه، وبالتالي ان من غير الممكن الفصل بين وضع حالة الجسيم والقياس الذي يجرى عليه، فكلاهما يخضعان إلى نظام واحد.
وقد كانت هذه القضية من أهم القضايا التي جرى النقاش المباشر – عفوياً- حولها بين أينشتاين وبور بمعية الكثير من العلماء المساهمين. وبدأ هذا النقاش حولها وبعض القضايا الأخرى (عام 1927) خلال مؤتمر سولفاي للفيزيائيين، ثم تجدد مرة أخرى (عام 1930)، حتى انتهى في مرحلته الأخيرة (عام 1949). فقد اعتبر أينشتاين ان الواقع موجود بشكل مستقل عن أي دور للمراقبة، أو أي شكل من أشكال التفاعل بين الموضوع المجهري الجسيمي وأدوات القياس كما تتمثل في الأشعة المسلطة على الجسيم، وهو بالتالي يعارض الوصف الإحتمالي المطلق للموضوع المجهري. وهو ينقد الكوانتم لأنها ‹‹صاغت قوانين تحكم المجاميع وليس الأفراد، وشرحت الإحتمالات وليس الخواص››. كما اعتبر ان مشكلة الكم تكمن في الواقعية لا السببية تعويلاً على وجود حقيقة مستقلة عن الرصد والراصد، وهاجم فكرة عدم وجود أي حقيقة بعيداً عن قدرتنا على الرصد.
وثمة من اعتقد بأن عالم الفيزياء السوفيتي فوك قام بتطوير أفكار نيلز بور وعرّف الإحتمال بأنه خاصية أساسية للموضوع المجهري، فهو سمة موضوعية مستقلة عن المراقب رغم أنه نتاج التفاعل بين الموضوع المجهري وجهاز القياس. وبحسب هذه الوجهة من النظر فقد تغير مفهوم الواقع في الفيزياء، إذ لم يعد يفسر الإحتمال بوصفه قياساً للمعرفة البشرية أو الجهل، بل هو جوهر ومحتوى العالم المجهري.
لكن هذا المعنى هو بالضبط ما كان يريده بور ومدرسته. وكان هايزنبرغ يرى ان مسألة عدم تحديد موضع الإلكترون ومساره لا يعود إلى رصدنا وقياساتنا، بل إلى سمة من سمات كوننا. فقد اعتقد ان كل الذرات والجسيمات الأولية لا تعود الى الواقع، بل إلى عالم الإمكان والإحتمال، وهو بهذا المعنى يقترب من التحديد الأرسطي لمفهوم القوة في قبال الصورة. وبلا شك ان هذا الاعتقاد جاء نتيجة تأثير نيلز بور عليه.
وقد أثّر هذا المعنى على المفهوم الأساسي للواقع كما هو. فلم يعد الواقع مستقلاً، بل أخذ بالحسبان تأثير اسلوب المراقبة أو التفاعل بين الجهاز والموضوع المجهري ضمن ذلك المفهوم. وهو ما يطلق عليه التشابك الوثيق بين المفهومين: الواقع والإحتمال أو الإمكان. فقد قام بور بتطوير فكرة شرودنجر حول الدالة الموجية، واعتبر ان وضع الجسيم وحالته لا تعبّر عن أكثر من إمكانات مجردة حتى يحصل الرصد؛ فيسبب الراصد في إنهيار الدالة الموجية. فللرصد دور هام في تحديد حالة الجسيم، أو حتى الجسيمين المتشابكين عن بعد.
هكذا فبحسب ميكانيكا الكوانتم لمدرسة كوبنهاكن ليس هناك موضع محدد للجسيم نجهله، بل يوجد ما يُعرف بالدالة الموجية التي تشير إلى إمكانات تواجد الجسيم ضمن موضع ما، لكنها مجرد إمكانات فحسب.
وتعتمد هذه الفكرة على ما توصل إليه شرودنجر في معادلته الموجية التي تبدي إحتمالات تواجد الجسيم في عدد من المواضع المحددة، وفقاً للشكل التقليدي للإحتمال، أي أن للشيء موضعاً محدداً نجهله ومن ثم نحتمل وجوده هنا أو هناك. أما من وجهة نظر نيلز بور فإن الحقيقة الماثلة قبل القياس هي هذه الإحتمالات الموضوعية المتعلقة بالدالة الموجية من دون مزيد، بمعنى أنه لا يمكن ان نفترض للجسيم موضعاً ما نجهله كالذي يراه شرودنجر، ويبقى هذا الحال من الإحتمالات الموضعية المعلقة حتى يأتي دور الرصد والقياس في التأثير بقلب هذه الإحتمالات إلى واقع محدد عبر إنهيار الدالة الموجية. وبالتالي فالواقع يتشكل من نتائج القياس. أما قبل ذلك فهو مجرد عالم إمكان محض يوصف بالثالث المرفوع، إذ فيه لا يوصف الشيء بالوجود ولا بالعدم، بل هو محض إمكان.
أما أينشتاين فقد ركّز على الجانب الواقعي للظاهرة بما يحمل من الحقيقة الفيزيائية للزمان والمكان دون الذهاب إلى عالم نصف وجودي كعالم الإمكان والإحتمال المطلق أو الموضوعي، وهو ما يتفق معه شرودنجر في هذه النقطة التي تهدر فيه الكوانتم الواقع وراء شبح برزخ الإمكان وما يحمله من تناقض الإمكانات المتعددة.
ومع هذا فقد كان أينشتاين منزعجاً من موجات شرودنجر بإعتبارها تتوسع وتنتشر على مساحات هائلة بمرور الزمن، وبحسب تعبير البعض بأنها تشيخ. كما زاد من استياء أينشتاين تأويل صديقه ماكس بورن لهذه الموجات، فوفقاً للأخير ‹‹ان الموجة لا تصف سلوك الجسيم، بل تصف إحتمال موقعه في أي لحظة››، مما يعني أنها قائمة على الصدف وليس اليقينيات السببية، وهي التي ألِفها أينشتاين ضمن مسلماته الفلسفية.
وكان بور يعتبر ان من الخطأ جعل مهمة الفيزياء تتمثل في البحث عن الكيفية التي تكون عليها الطبيعة، بل إنها تتعلق بما نستطيع قوله عنها، وذلك في معرض نقده لأينشتاين وشرودنجر معتبراً انهما يحاولان فرض ارادتهما على ميكانيكا الكم بدل الاستماع إلى ما تقوله. وأشار إلى اضطراره لقبول الطريقة الجديدة في التفكير غير المريحة بسبب ان الطبيعة نفسها هي التي وجهتنا لذلك.
لكن بور وهو ينهج منهج الاستماع فإنه لا يتبع طريقة النظام الإجرائي الإستقرائي أو التجريبي المحض كالذي يبشر به فرانسيس بيكون وستيوارت مل مثلاً، بل إنه ذو نزعة ذاتية نسبية، فالحقيقة تظهر من خلال التفاعل بين الذاتي والطبيعة، ولا يمكن معرفة ما عليه الأخيرة ولا الحديث عن ذلك من غير إضافة شيء ما من الذات خلال قياسها لها. وهو ما جعل أينشتاين يعتبر قصة الكوانتم تحتاج إلى إكمال، فهي ناقصة إذ تظل معلقة في الإحتمالات الموضوعية أو المطلقة. وهناك مثال صوّره أينشتاين ضد الكوانتم استناداً إلى الحس المشترك العام، إذ كتب يقول: ‹‹أنا أصف الموقف هكذا: إحتمال ان تكون الكرة في الصندوق الأول هو إحتمال بنسبة (50%). هل يعتبر هذا وصفاً كاملاً؟ لا، فالعبارة الكاملة هي ان الكرة موجودة (او غير موجودة) في الصندوق الأول. فهكذا يجب ان يظهر تصوير الموقف في وصف كامل. نعم، فقبل ان افتح الصندوقين تكون الكرة موجودة بكل تأكيد في أحدهما، على ان كونها موجودة في صندوق بعينه هي مسألة لا تعرف إلا عندما يرفع غطاء الصندوق››.
2ـ اطروحة وجود الشيء هنا وهناك
وتعتمد هذه الاطروحة على ما صرح به نيلز بور من ان للجسيم وجودأ هنا ووجوداً هناك، أو أنه يكون قليلاً هنا، وقليلاً هناك في الوقت نفسه، بما يتفق مع موجة شرودنجر الممتدة. وهو ما يعني وجود تعدد لموضع الجسيم رغم أنه واحد. ويلاحظ ان في هذه الاطروحة شيئاً من التطور مقارنة بالاطروحة السابقة التي لا تصف الشيء خارج إطار الكشف والرصد، بل يكون معلقاً في وضع الإمكان الإحتمالي. فالشيء الذي يحتمل وجوده هنا أو هناك وفقاً للاطروحة السابقة أصبح موجوداً هنا وهناك بحسب الاطروحة الثانية، ومن ثم فله تأثير هنا مثلما له تأثير هناك، ويبدو ان هذا التأثير المتعدد ينطوي في الوقت ذاته على مضامين وجودية متناقضة كالذي تؤكده الاطروحة القادمة الثالثة، وهو ان الشيء هنا سيكون له نظير مضاد هناك، فهو ليس مجرد موجود هنا وهناك، بل ان وضعه هناك يكون على الضد مما هو هنا.
فقد ظهر خلط بين التأكيد على وجود تأثير شبحي عن بعد كما يطلق عليه أينشتاين، وبين الصورة المتناقضة لوجود الشيء وتعدديته. وكان أينشتاين رافضاً للحالتين معاً، في حين كان شرودنجر يتخذ موقفاً وسطاً بينه وبين مدرسة كوبنهاكن، فهو يرفض حالة التناقض ونفي الواقع قبل الرصد، لكنه يؤكد على تأثير الشيء عن بعد، مخالفاً بذلك صاحبه، حيث لا يرى الموضعية أو المحلية مبدأً مقدساً كما يؤكد عليها أينشتاين، لذا ابتكر مصطلحاً جديداً هو التشابك أو التعالق لوصف العلاقات المتبادلة بين جسيمين تفاعلا ثم ابتعدا عن بعضهما، فأي تغير يحدث لأحدهما يؤثر على الآخر لحظياً وفقاً لهذا التشابك أو التعالق، وكما قال: ‹‹ينشأ تشابك التوقعات من حقيقة ان الجسيمين في وقت مبكر كوّنا بالمعنى الحقيقي نظاماً واحداً، أي انهما كانا يتفاعلان وتركا آثاراً أحدهما على الآخر، واذا وضع جسيمان منفصلان في موقف بأن أثّر كل منهما على الآخر وانفصلا مرة أخرى حينئذ يحدث ما اسميته بتشابك معرفتنا بالجسيمين››. وهو المبدأ الذي استند إليه نيلز بور في تحليله للموقف، إذ أشار ‹‹إلى ان الجسيمين كانا جزءاً من ظاهرة كاملة. ولما كانا يتفاعلان فإن الجسيمين يتشابكان نتيجة لذلك، فهما على ذلك جزء من ظاهرة كاملة واحدة أو نظام كامل له دالة كمية واحدة››. وليس من الصحيح ان يعاملا ككيانين منفصلين حتى يجري القياس الذي يفصل بينهما. وبالتالي فالتشابك لا ينتهك مبدأ عدم التحديد باعتبارهما ليسا كيانين منفصلين.
كانت هذه النقطة محطة نقد سجلها أينشتاين في رده على مدرسة كوبنهاكن. فقد اعتبر التأثير غير الموضعي أو اللحظي عن بعد فكرة روحانية؛ لأنها تتحدث عن تأثير شبحي عن بعد متجاوزة بذلك سرعة الضوء، وهي من المسلمات الأساسية لدى النسبية. لذلك لم يتقبل التأثير اللحظي للجسيمين المتشابكين ضمن رده على الكوانتم، مع أنه ساهم في وضع الأساس لميكانيكا الموجات في بداية الأمر، وكان يعتقد بالتأثير المتبادل للجسيمات عن بعد، بحيث يتعذر التمييز بين الجسيمين، ويكون التواصل فيما بينها غير موضعي، لكنه تراجع عن ذلك فيما بعد وقال بمبدأ الانفصال الذي عارض فيه تلك النظرية، وأطلق عبارة شهيرة وهي ان الجاذبية في النسبية العامة تتجنب أي تأثير شبحي عن بعد. واعترف بأن مسألة التأثير عن بعد تنجح عند التعامل معها من الناحية الرياضية، لكن تظل طبيعتها الفيزيائية خفية، لذلك اعتبر التأثير المتبادل للجسيمات في غاية الغموض.
لقد حاول أينشتاين تصحيح نظرية الكوانتم وتفسير مبدأ هايزنبرغ حول تحديد موضع وسرعة الجسيم اعتماداً على مفاهيمه المتعلقة بالحتمية وبإفتراض جسيم آخر بعيد يجري عليه القياس. فقد افترض في تجربة خيالية ان يكون تنبؤه ليس من تشوش الجسيم ذاته، بل من تشوش جسيم آخر كان قد اصطدم بالأول، أو من خلال جسيم آخر مضاد في الإتجاه كالبوزيترون مقارنة بالإلكترون، والراصد يستقي عن الجسيم الأول معلومات من رصده للجسيم الثاني؛ بسبب الترابط بين الجسيمين المتفاعلين، مثلما يحصل في حالة اصطدام كرة بليارد بأخرى.
كما حُررت الفكرة من خلال سبين إلكترونين يدوران حول محورهما بالتعاكس وإبعادهما عن بعضهما بعداً كبيراً جداً، فعندما نعرف طبيعة دوران أحدهما سنعرف دوران الآخر لأنه معاكس، وسبب اختيار البعد الكبير بينهما حتى لا يؤثر أحدهما على الآخر، أي أنهما منفصلان، وحيث لا يوجد ما هو أسرع من الضوء فإن تحديد دوران أحدهما لا يفضي آنياً لتحديد دوران الآخر. في حين بحسب بور فإن نظام الجسيمين هو نظام واحد لا ينقسم، فلا يمكن تحليله حسب المسافات كما يرى أينشتاين، بل هما مرتبطان آنياً، وان نقل المعلومات تتخطى الطريقة التقليدية، وبالتالي فالعناصر المستقلة والمنفصلة مكانياً لا تتفق مع قوانين الكوانتم.
وخلال الخمسينات من القرن الماضي اعتبر ديفيد بوم ان من الممكن إفتراض وجود متغيرات خفية أو مخبأة تؤثر على الظاهرة الكمومية، لكن مشكلتها أنها خفية. فخصائص الجسيمات وفقاً لبوم تشتمل على متغيرات مخبأة يتعذر الوصول اليها من قبل الملاحظ، وهي التي تحدد نتائج القياسات. فعدم القدرة على التنبؤ بأحداث الكم ينشأ من جهلنا بهذه المتغيرات. ومن وجهة نظر هايزنبرغ ان بوم ينزع الى التصالح مع الميكانيكا الكلاسيكية على حساب تقويض التناسق والاناقة الرياضية الكبيرة لميكانيكا الكم في صورتها الخالصة، لذا اعتبر ميكانيكا بوم مزعجة.
هكذا فالحرب الذي أشعلته الكوانتم هو للدفاع عن الصورية الرياضية في قبال الفهم الكلاسيكي الذي يصعب عليه الامتثال لهذه الصورية في تفسير الظواهر الكوانتية. فالرياضيات هي من قادت الى ظاهرة التشابك. لكن لحد الآن لم تفهم حقيقة هذا التشابك.
وثمة من قارن بين نظريات المتغيرات الخفية وفيزياء الكوانتم كالتالي:
أولاً: إن التفاصيل الرياضية للمتغيرات الخفية أعقد كثيراً من فيزياء الكوانتم ذات الصياغة البسيطة الأنيقة.
ثانياً: رغم ان نظريات المتغيرات الخفية حافظت على مبدأ الموضعية لكن بعض المواقف المتضمنة للسلوك الكوانتي لأزواج من الفوتونات لا يمكن تفسيرها في ضوء أي نظرية منها.
وتأكيداً للفقرة الأخيرة انه بعد ثلاثة عقود من طرح أينشتاين تجربته الخيالية قدّم جون بيل مبرهنته الرياضية عام 1969. كما انتهى في بعض التجارب إلى أنها تثبت بأن وجود متغيرات مختبئة موضعياً يتعارض مع التنبؤات الاحصائية للكوانتم. وبالتالي ان مفهوم الواقع المؤلف من أجزاء منفصلة تجمعها ارتباطات موضعية لا يتفق مع نظرية الكم.
لقد تأكد للفيزيائيين عبر العديد من التجارب التي تفي بفكرة أينشتاين ان الأخير كان مخطئاً، إذ تبين ان أحد الجسيمين يؤثر على الآخر رغم الانفصال بينهما، ومن ثم غرابة اللاتموضع والتأثير بين الجسيمات. ومن ذلك التجربة التي قام بها الفرنسي اسبكت بفلق أزواج مترابطة من الفوتونات وأطلقها باتجاهات متعاكسة، ومن ثم وضع مرشح استقطاب أمام واحد من الكشافات في وقت كانت الفوتونات في منتصف طريق سيرها، فأظهرت النتائج ان الفوتون في الجزيئة التوأم (ب) يعرف ما حدث لتوأمه (أ). فازواج الفوتونات ظلت مترابطة بشدة بغض النظر عن كيفية تحويل المستقطب.
وفي تجربة يمر فيها فوتون في بلورة فينقسم الى اثنين، فيندفع كل منهما بعيداً عن الآخر لعدة كيلومترات، ثم ينتهي بهما المطاف الى السقوط على مرآة شبه عاكسة، وحينها لوحظ انه في كل مرة يعمل الفوتونان على اتخاذ نفس السلوك إما العبور أو الانعكاس، وكأنهما يتفقان على الفعل ذاته، أو أنهما يشكلان نظاماً أو جسيماً واحداً فحسب.
وفي بعض التجارب اللاحقة تكونت صورة شبحية لحروف رمزية لإحدى الجامعات، فالفوتون الذي يمر من فتحة هذه الحروف يجعل توأمه المتعالق البعيد يكوّن صورة شبحية لهذه الحروف.
ليس هذا فحسب، بل هناك تجارب ناجحة حول التشابك الثلاثي – أي بين ثلاثة جسيمات -، حيث أظهرت انها تتفق مع الاستنتاجات الرياضية لنظرية الكم، مع خطأ ورقة أينشتاين حول الموضعية والواقع.
هكذا لم تفلح محاولة أينشتاين الإفتراضية وثبت خطؤها خلال التجارب منذ الستينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي. كذلك ان التجارب التي أُقيمت (عام 2006) هي أيضاً أكدت هذا الحال من الغموض الدال على التشابك والتأثير الشبحي للجسيمات عن بعد. وقد قال بعض الفيزيائيين حول هذه النتائج بأنها شيء أقرب إلى السحر. لكن هناك من رأى بأن هذا التشابك لا يهدم التقيد بسرعة الضوء، ربما للاعتقاد بأنه عائد إلى نظام واحد فحسب.
ومن وجهة نظر الفرنسي اسبكت ان ورقة اينشتاين وزملائه (عام 1935) تثير تناقضاً بين وصفين أحدهما لصالح الكوانتم والآخر لصالح الموضعية لأينشتاين. فإما ان الوصف الاحصائي للدالة الموجية هو وصف كامل، أو ان الحالات الفعلية لجسيمين منفصلين مكانياً مستقلة إحداهما عن الأخرى.
وبعبارة ثانية، ان اجتماع الموضوعية والموضعية مستحيل، فقد تحصل تأثيرات خفية لكنها ليست موضعية كما زعم أينشتاين. وكان كلوزر وهورن قد اثبتا بالتجربة استحالة هذا الاجتماع، وشرحا نتائجهما في مقالة ظهرت في المجلة الفيزيائية (عام 1974). ومن حيث النتيجة انه ثبت خطأ المتغيرات الخفية الموضعية، وذلك على يد بيل واسبيه وآخرين.
وهذا يعني ان في التشابك تنتفي عناصر الواقع من الزمان والمكان. فللجسيمين المتشابكين نظام واحد، يكون فيه الجسيم في موضعين في اللحظة نفسها مع تبخر المكان، أو لا معنى للأبعاد المكانية، فالجسيمات المتشابكة تتجاوز المكان لانها تشكل أجزاءاً من نظام واحد.
ومن وجهة نظر فلاتكو فيدرال فإن الجسيم ليس في مكانين في آن واحد، بل هو في مكان محدد عند قياسه، لكن عند عدم قياسه فهو يبدو في مكانين. وبحسب رأي بعض العلماء فإنه يمكن معرفة تعدد موضع الجسيم في تجربة دقيقة دون تأثير المشاهد، لكن ذلك لا يحصل إلا بعد فترة طويلة من الزمن، والفكرة مأخوذة من تعددية القطة الحية والميتة في الوقت ذاته.
كما إستنتج الفيزيائي فريد آلان وولف بأن التأثيرات الخفية قد تكون أنفسنا نحن حيث نؤثر على الظاهرة الموضوعية. فالعالم الذي نواجهه عالم سحري.
وعلى العموم ثمة تأويلان حول هذه التجارب التي قام بها جون بيل وغيره، أحدهما هو وجود اشارات فورية تسير بأسرع من الضوء مما يبدي التأثير من جسيمة على أخرى بعيدة لحظياً، وهو اعتقاد العديد من الفيزيائيين رغم عدم وجود دليل على التأثير اللحظي، فكما أوضحت تجربة الفرنسي آلان أسبكت ان سرعة أي إشارة إنما تتفوق على سرعة الضوء. كذلك بيّنتْ تجربة نيكولاس جيسين بأن الاشارة تنطلق بسرعة تعادل مائة مليون ضعف سرعة الضوء. لكن مع ذلك يعتقد الفيزيائيون ان الاشارة لحظية أو لا نهائية، وهو ما لا يمكن اثباته تجريبياً.
أما التأويل الثاني فيعود إلى نيلز بور، وهو ان هناك نوعاً من عدم الانقسام في المواضع، فما هو هنا يطابق ما هناك، مما يجعل الزمان والمكان يكسبان صفة اللاموضعية. لكن هذا التأويل هو الآخر لا ينسجم مع وجود سرعة محددة مهما كانت عظيمة وأبلغ من سرعة الضوء بكثير.
ولا شك ان كلا هذين التأويلين لا يتسقان مع إصرار أينشتاين على الاعتقاد بالتأثير الموضعي، ولذلك اتهم نظرية الكوانتم بالمشوشة، وهو ما جعل ستيفن هوكنج يصرح في محاضرة له (سنة 1997) بالقول: ‹‹لقد كان أينشتاين هو المشوش وليست نظرية الكم››، فقد تبين فشل جميع المحاولات التي رامت لتحديد موقع وسرعة الجسيم. لهذا ظل الاعتقاد بوجود علاقة ثابتة ومتعاكسة لتحديد موقع وسرعة الجسيم اعتماداً على قوة الطاقة أو التردد مع طول الموجة لتحديد السرعة، فبحسب قانون بلانك فإن طاقة الفوتون تتناسب طرداً مع تردده وعكساً مع طول الموجة.
إن مقالة التأثير الخفي في الظواهر الكمومية - الذي يجعلها متصلة ببعض - وجدت تأويلاً قائماً على فكرة وحدة الوجود، وهي أن الراصد هو المرصود، وأن المادة والوعي مترابطان ضمن حقيقة واحدة مفعمة بالحياة دون انفصال، وأن هناك نسيجاً للكل الكوني ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض مثل شبكة سببية متحركة دون وجود للمصادفات والعشوائية كالتي تلوّح لها مدرسة كوبنهاكن، فأي تأثير في أي شيء يؤثر على الآخر، أو أن أي جزء يحمل الكل بشكل خافت، فكل شيء موجود في أي شيء ضمن الجسيم، وأي شيء يعكس صورة الكل، فهو الكون المرآة، حتى الفوتون يحمل مخطط الكل بما فيه الماضي والمستقبل جميعاً، وكلها منعمة بالحياة ضمن حقيقة واحدة متعددة الأبعاد. وبالتالي هناك نظام مضمر ووحدة وجود في الفيزياء الجسيمية كالتي يتبناها ديفيد بوم في كتابه الموسوم (السببية في الفيزياء الحديثة).
وكان هذا الفيزيائي يعتقد بأن أغلب علماء الكوانتم مصابون بخداع النفس لتأثير نيلز بور عليهم، وهو يشير إلى محاضرة للأخير في كوبنهاكن استطاع خلالها ان يجبر الفيزيائيين على فهم الحقائق التي اكتشفوها من الفوتونات والميزونات وغيرها من الجسيمات بأنها تجريدات مرتبطة بأدواتهم القياسية. كذلك كان موراي جيلمان (Murray Gell-Mann) الحائز على جائزة نوبل (عام 1969) يقول: ‹‹لقد استطاع بور ان يغسل أدمغة جيل كامل من الفيزيائيين وأقنعهم ان المشكلة قد حُلّت بالفعل››. لهذا اعتبر بوم ان طريقة بور ليست التفسير الوحيد كما يدعيه الأخير.
ويُنقل أن أينشتاين قد اعترف بأنه لم يفهم نظرية الكوانتم حتى فهمها من ديفيد بوم نفسه، ففي (عام 1951) سلّم بوم نسخة لنصٍّ كتبَهُ حول الكوانتم لأينشتاين فأفصح الأخير أنه لم يفهم النظرية تماماً حتى قرأ ما كتبه بوم عنها. وربما كان أينشتاين يرى ان القصة الناقصة التي خلّفها نيلز بور واتباعه حول نظرية الكوانتم قد أكملها بوم – في وحدته للوجود - خارج السلطة الفيزيائية لمدرسة كوبنهاكن. ومثل ذلك فعل الفيزيائي تشو في نظريته (التعضيد الذاتي)، ووفقاً لها انه لا يمكن ارجاع الطبيعة إلى أي وحدات أساسية، بل لا بد من أن تُفهم كلياً عبر تماسكها الذاتي المتبادل. وبالتالي لا توجد لدى تشو ثوابت ولا معادلات ولا قوانين أساسية، بل هناك شبكة دينامية من الأحداث المتعاضدة المتداخلة. فكل شيء يُفهم من خلال الآخر بالتبادل.
3ـ اطروحة التناقض والنظير المضاد
لقد تطور الموقف من القول بأن الشيء متعدد الموضع، فهو موجود هنا وهناك، إلى القول بتعدد الشيء ذاته، وهو ما يعرف بالنظائر والنسخ المتعددة. وهو ما جعل العلماء يفترضون تعدد الأكوان كما سنعرف.
وبعبارة أخرى، لقد تحول موقف الكوانتم من الحديث عن إمكانات محتملة غير قابلة للتحديد والتنبؤ إلا بعد الكشف وإنهيار الموجة الإحتمالية، إلى حديث يدور حول شيء موجود هنا وهناك، وفيها يتضمن التأثير اللاموضعي، وهو ما اكدته الكشوفات التجريبية. لكن الأمر أخذ يتطور إلى الحديث عن موجودين كائنين أحدهما يشكل نظير الآخر وان كان على الضد منه. بمعنى ان هذه المرحلة تختلف عن سابقتها لكون السابقة تتحدث عن شيء له وجودان، وبالتالي كان يسمح للتأثير اللاموضعي للشيء، فهو تأثير لحظي عن بعد بما يفوق سرعة الضوء. في حين ان الحديث بحسب الاطروحة الثالثة يتناول الشيء ونظيره المضاد، أو هو شيء واحد له حالتان متناقضتان على أسوء تقدير، رغم الالتباس والتشوش في المعنى المراد، كالذي يظهر من الجدل المتعلق بقطة شرودنجر، والذي دار بين أينشتاين وصاحبه شرودنجر من جهة ومدرسة كوبنهاكن من جهة ثانية.
فقد سبق لأينشتاين ان طرح المشكلة في رسالة إلى شرودنجر يردّ فيها على الكوانتم مفترضاً قنبلة أُعدت بحيث تنفجر استجابة لحدث كمومي غير متوقع، فإذا كان يصعب فهم المقصود من وضع كمومي يؤلف بين إحتمال وقوع الحدث وإحتمال عدم حدوثه، فأي معنى للتفكير، فيما تساءل أينشتاين، في وضع يمثل قنبلة تنفجر ولا تنفجر. لكن شرودنجر قام بتغيير المثال الذي طرحه أينشتاين بإفتراض قطة تفضي إلى ان تكون حية وميتة. فاشتهرت المسألة بهذا العنوان (قطة شرودنجر). وملخص الفكرة أنه لو افترضنا قطة في صندوق مغلق مرتبط كهربائياً بمطرقة تهشم قنينة سم حال سقوطها بحيث يتخلل السم إلى داخل الصندوق ويفضي إلى قتلها، لكن سقوط المطرقة متوقف على عينة من نشاط شعاعي يمكن أن يستثار بإحتمال قدره (50%) فيؤدي إلى سقوط المطرقة ومن ثم قتل القطة.
فهذا المثال يبدي ان هناك حالتين للقطة وهي أنها حية وميتة. مع ذلك لم يتقبل نيلز بور الحديث عن القطة بإعتبارها من عالم غير عالم الكم الصغير. أما شرودنجر فقد أصرّ وبموافقة أينشتاين بأنه لا شيء في نظرية الكم الرسمية يحول دون التفكير في قطط كمومية. وبرأي أصحاب مدرسة كوبنهاكن أنه لا يمكن التنبؤ بشيء ما لم يفتح الصندوق، بمعنى ان النتائج الفيزيائية الكمومية غير قابلة للتنبؤ والإحتمال التقليدي وهو ما لم يتقبله أينشتاين، معتبراً ان هناك شيئاً ناقصاً يحتاج إلى ايضاح.
ورغم ان الجواب السابق الذي تقدمه تلك المدرسة هو ما يعود إلى المرحلة الأولى للتأويل، إلا ان الفيزيائيين أخذوا يتعاملون مع وجود نظائر للشيء متضادة بقدر ما تبدي حالة الشيء من إحتمالات ممكنة تأثراً بموجة شرودنجر. وبذلك أخذ الحديث يدور في وجود قطة حية وميتة قبل الكشف، وان كان بعد الكشف يتبين ان كانت الحالة المختبرة حية أو ميتة، وكتأويل لاختفاء الحالة الثانية بعد الكشف هناك من افترض وجودها في عالم كوني آخر، ومن ثم ظهر الحديث يدور حول وجود نسختين مختلفتين للكون، وبقدر ما تكون إحداهما مرصودة بقدر ما تكون الأخرى خفية، وبقدر ما يكون أحد الاشخاص حياً بقدر ما يكون نظيره في الكون المناظر ميتاً، ولو ان هذا الشخص مات، فمعنى ذلك ان الآخر أصبح حياً. هكذا تتوارد التأويلات المشوبة بالاسطورية والرمزية بما لا يختلف عن الاساطير الدينية والعرفانية.
لقد ظهر في خضم النقاشات الكوانتية ان العالم المتخيل هو عالم إمكاني ينطوي على التناقض والتضاد. إذ برز عالم متناقض، يُظهر بعض الممكنات المحتملة عند القياس والرصد فيما يختفي البعض الآخر ليظهر في عالم آخر خفي عند القياس أيضاً. وبالتالي فللشيء أكثر من وجه، يظهر هنا عند القياس، كما يظهر هناك في الوقت ذاته عند القياس أيضاً. فالعالم الممكن هو عالم جامع للمتضادات أو المتناقضات.
وقد يلاحظ ان لدى الكوانتم خلطاً بين حالتين قبل الرصد يمكن ايضاحه حول قطة شرودنجر كالتالي:
1ـ القطة حية وميتة في الوقت ذاته، لأنها تعبّر عن إمكانيتين متنافيتين، هما الحياة والموت.
2ـ القطة ليست بحية ولا ميتة، فهي تحتمل الحياة والموت، فعند عدم الرصد تكون حقيقتها بهذا الرفع للحالة الواقعية أو الوجودية، بمعنى ان هناك عالماً آخر غير واقعي هو أشبه بعالم الحال الذي يتحدث عنه المعتزلة، أو عالم الأعيان الثابتة الذي يتحدث عنه العرفاء الصوفيون.
فالتصوير الأول يتضمن التناقض للشيء ذاته، فهو حي وميت في الوقت نفسه. وهو المشهور الذي جرى حوله النقاش كثيراً، والذي سلّم به أغلب أتباع الكوانتم دون مناقشة، رغم ان فيه ضرباً للمنطق، وكما يُذكر بأن معظم الفيزيائيين المناصرين لميكانيكا الكم سلموا بهذا التناقض، أو ان ‹‹قطة شرودنجر تجلس في هذا الصندوق بطريقة ما حية وميتة إلى ان يكشف غطاء الصندوق››.
أما الثاني فيتضمن نفي الواقع أو حالة الرفع بدون تعيين حقيقة الشيء، كأمر معلق من حيث الوجود. وهو ما يعطي معنى الثالث المرفوع. ومن وجهة نظر الفيزيائي فايتسيكر تكون الذرة في حالة الثالث المرفوع كتتام لحالة كونها محتملة الوجود في هذا الصندوق أو ذاك.
وقد دلّ على الثالث المرفوع ما يقوله نيلز بور بأنه عند الرصد فحسب يمكن تحديد وضع الشيء في إنهيار الدالة الموجية وهي دالة إحتمالية صرفة ومجردة. لذلك كان أينشتاين في نقاشاته لا يركز على الصيغة التناقضية، بل على نفي الواقع أو عدم تحديده للشيء وفقاً للثالث المرفوع، معتبراً ان القصة غير مكتملة، إذ هناك حاجة للتحديد قبل الرصد دون ان يكون له علاقة بالتناقض. والغريب سرعان ما تحول الحديث إلى ما يتضمن مثل هذا التناقض حتى أخذ يعطي دلالاته الفعلية لدى اتباع الكوانتم. فهناك تعابير دالة على التناقض في نقد أينشتاين وشرودنجر لمدرسة بور الكوانتية قبل الرصد، ومن ذلك ما كتبه أينشتاين إلى صاحبه يقول: ‹‹ان قطتك تظهر اننا متفقان تماماً فيما يتعلق بتقييمنا لطبيعة النظرية الحالية، فهذه الدالة الثنائية التي تحتوي على وصف لحالة قطة حية وميتة في ذات الوقت لا يمكن إعتبارها وصفاً لحالة حقيقية للموقف››.
وينسجم هذا التناقض مع موجة شرودنجر الحاملة للإمكانات والإحتمالات المختلفة من دون ثالث مرفوع كالذي عليه طريقة بور. لهذا وُظفت هذه الموجة للحديث عن أكوان متعددة عوض الاستناد إلى نظرية بور القائلة بانهيار جميع الإمكانات عند القياس باستثناء واحدة، مما يعني انها لا تصدق إلا على كون واحد.
ويلاحظ ان أينشتاين كثيراً ما اتهم الكوانتم بأنها تبدي تصورات غير مفهومة أو واضحة، وقد ينطبق عليه هذا الوصف فيما يتعلق بمفاهيمه حول الزمان والمكان، أو الفضاء الزمكاني، فهو أيضاً من المفاهيم غير المفهومة، إذ كيف يمكن - مثلاً - ان يكون هناك توسع للكون دون إعتبار مسبق لوجود الفضاء؟ فالفضاء الأينشتايني هو ذاته يتوسع من الصفر فصاعداً، وان الكون المتوسع إنما تعبير عن توسع الفضاء ذاته، لا ان شيئاً ما يتوسع ضمن هذا الأخير. ولا شك ان ذلك غير مفهوم، فالعقل البشري ليس بوسعه ان يتخيل شيئاً يتوسع من غير وعاء، ولا بوسعه ان يتخيل شيئاً يحدث من غير زمن سابق لحدوثه. وبالتالي فإن فكرة اللانهاية في الفضاء، هي كفكرة اللانهاية في الزمان الوجودي، تعد من الوجدانيات التي يتقبلها العقل البشري لكونها مفهومة مقارنة بغيرها من الإطروحات المنافسة التي تفتقر إلى مبدأ ما نطلق عليه حد (المفهومية). وهو الحد الذي تجاوزته نظرية الكوانتم كما عبّر عن ذلك أينشتاين في العديد من المرات، مثلما تجاوزته نظرية النسبية من قبل. فهذا الوصف يذكرنا بما قيل حول ثلاث نظريات لدى المسلمين غير مفهومة لاستحالتها، وهي: طفرة النظّام، وأحوال أبي هاشم الجبائي المعتزلي، وكسب أبي الحسن الأشعري. وبالتالي إن لحد المفهومية خصوصية السبق لتحديد طبيعة القضايا الخارجية التي يتناولها العقل من حيث الادراك إن كانت متسقة مع البحث والتحقيق أو غير متسقة. فهو مبدأ عقلي بامتياز.
4ـ اطروحة التعدد بلا حدود
وهي الاطروحة التي جاءت من خارج إطار المناقشات التقليدية الدائرة ضمن نظرية الكوانتم، وان اعتمدت عليها في الأساس واختلفت معها في النتائج والتفسير، وقد تبناها الكثير من الفيزيائيين بالصورة التي تجعل من الأكوان لا نهائية العدد، واُعترض على النقص الرياضي لمنهج كوبنهاكن في الرصد وانهيار الموجة خلافاً لمنهج العوالم المتعددة.
هكذا فمن مرحلة الإمكان مروراً بمرحلة الوجود ثم مرحلة النظير المضاد حتى الإنتهاء عند مرحلة التعدد غير المحصور. وتتعلق المرحلية الأخيرة بفكرة الأكوان المتعددة تبعاً لقاعدة التمثيل القياسي، وعلى الأقل ان هذا التمثيل يشير إلى أن الكون منقسم إلى نسختين متوازيتين، طبقاً للتجربة الخيالية لقطة شرودنجر التي تبدي صفتين متناقضتين، حيث أنها تكون حية وميتة في الوقت ذاته. وبالتالي فهناك نسختان لكل شيء. فالقطة الحية الميتة عندما تظهر بفتح الصندوق بأنها حية مثلاً لدى المراقب؛ سيكون لها نسخة أخرى في عالم كوني آخر تظهر فيه بأنها ميتة لدى مراقب آخر، وكل مراقب يرى ان الحقيقة أمامه حقيقة مطلقة بحسب الكشف، أحدهما يرى القطة ميتة والآخر يراها حية. ولو أخذنا بعين الإعتبار ان القطط الحية لها خصائص مختلفة فيما بينها؛ فسيعني ذلك وجود أكوان متوازية كثيرة متعايشة، وهي ما تسمى بالأكوان المتعددة للميكانيك الكمومي.
ويُعتبر هذا الإعتقاد ‹‹الأكثر شعبية لدى معظم الفيزيائيين الذين يشتغلون على مواضيع أساسية مثل نظرية الأوتار أو نظرية M››. ومن الناحية الجسيمية يُعتقد أن للجسيم مواضع واتجاهات محتملة في كل مكان، وعليه يترتب القول بأن الأكوان غير متناهية النسخ. فقد اُعتمد على تأويل الكوانتم في تصوير كيف ان للالكترون قدرة على الإنشطار إلى نسختين، وعلى تجارب متعلقة بفوتون واحد قابل ان ينفذ وينعكس في الآن ذاته.. ومن ثم الاعتقاد بأن له القابلية على التواجد في أماكن متعددة مختلفة، وكذا هو الحال مع سائر الجسيمات حيث المعتقد أنها قابلة أن تكون في كل الحالات الممكنة.
لقد سبق للفيزيائي هيو إيفيرت ان افترض تعدداً للأكوان (عام 1956) اعتماداً على نتائج مناقشات نظرية الكوانتم ومن ضمنها ما يعرف بتناقض (قطة شرودنجر)، وذلك اعتماداً على حسابات موجة شرودنجر، فقام بتأويل طريقته في عدم انهيار موجة الاحتمال خلافاً لنظرية بور، ووظفها للاعتقاد بوجود عوالم متعددة، حيث تطور الموجة الى عدد من الأكوان بحسب عدد قمم موجة شرودنجر الإحتمالية. وهو يرى انه تبعاً للعوالم المتعددة لا وجود للاحتمالية في الموجة، بل ان المناطق المحتملة تتطور إلى عوالم من دون أي إحتمالية، أي بخلاف النهج الذي اختطته نظريتا شرودنجر وبور.
وبحسب بعض الكتابات ان مشكلة القياس الكوانتية تفترض أحد بديلين وحيدين هما: الذاتية كالذي عليه نظرية بور، أو الأكوان المتعددة المستندة إلى تأويل موجة شرودنجر، فإما هذه أو تلك.
كما ظهرت فكرة ثالثة على أثر النقاشات الكوانتية تقول إن من الممكن ان تكون الأكوان بما فيها عالمنا هي أكوان تمثلية غير حقيقية، أو ان هناك من يقوم بتشغيلنا وحوسبتنا في عالم حاسوبي ضخم مثلما نقوم نحن في حوسبة البرامج الكومبيوترية للعالم التمثيلي الإفتراضي، كالذي يتوقعه الاخصائي بفكرة التمثيل نيك بوستروم من جامعة اكسفورد.
وبحسب وجهة نظر إيفيرت إنه في العديد من الأكوان توجد قطط حية في حالات متفاوتة من النشاط، في حين توجد القطط الميتة في كون واحد فقط، وهو أمر غير منطقي إذ لا يعكس التناظر التام. وعلى أثر إيفيرت شرح دي ويت في مقال نشره في مجلة الفيزياء اليوم (عام 1970) معتبراً أن تفسير إيفيرت ‹‹له بريق لحظي عند استخدامه في تناقض قطة شرودنجر، ولا داعي للقلق حول اللغز المتعلق بما إذا كانت القطة حية وميتة معاً، أو ليست حية وليست ميتة، وبدلاً من ذلك فإننا نعلم في عالمنا ان الصندوق يحتوي على قطة إما حية أو ميتة، وهناك في العالم المجاور يوجد مشاهد آخر وعنده صندوق مطابق تماماً لصندوقنا يحتوي على قطة إما ميتة أو حية، واذا كان الكون في حالة انشطار دائم إلى عدد مذهل من الأفرع فحينئذ ان كل تحول كمي يحدث في كل نجم، وفي كل مجرة، وفي كل ركن بعيد من الكون يحدث انشطاراً في عالمنا المحلي على الأرض إلى عدد هائل من النسخ لنفسه››.
وتمتد المضاعفة في النسخ بحسب ايفيرت الى خيارات الانسان، فاذا كنتَ متردداً في تناول شاي او قهوة، فالكون عندها ينقسم مباشرة الى فرعين: تناول شاي في أحدها، والقهوة في الآخر. وبهذا يصبح لديك كل شيء. بل ان النفس تتضاعف أيضاً باستمرار الى عدد لا يحصى من النسخ.
لقد لاقت نظرية إيفيرت رفضاً من قبل العلماء بداية الاعلان عنها، خاصة وانها تحمل في جعبتها الكثير من المضامين الاسطورية، لكن أُعيد لها الحياة فيما بعد عندما اضطر العلماء للجوء اليها كملاذ للتهرب من فكرة الضبط الدقيق التي تبدي التصميم الإلهي؛ كما عبّر عنها كارتر حول ما سماه المبدأ الإنساني خلال الستينات. ومن ثم بدأ الفيزيائيون ينظرون لهذا المبدأ كبديل علمي لفكرة التصميم ذات الأثر شبه الديني.
وبعبارة أدق، تقبل الفيزيائيون فكرة المبدأ الإنساني بالفعل، وإن إلتفّوا عليه بتفسير قائم على الصدف العرضية - وفقاً لنظرية الأكوان المتعددة – التي مال إليها الكثير من الفيزيائيين في قبال التفسير الآخر القائم على التصميم والتخطيط. وبإعتبار ان أصل فكرة الكوانتم قائمة على تفاعل الذات مع الموضوع وانه لا يمكن الفصل بينهما كالذي يشير إليه نيلز بور وهايزنبرغ، فوفقاً لهذا المعنى فإن فتح المراقب لصندوق القطة الكوانتية يكون داخلاً في هذا التفاعل. وعلى هذا الأساس فإن نظرية الأكوان المتوازية تتضمن الإعتراف بوجود نسخ للمراقبين ضمن هذه الأكوان، فلكل شيء نسخ متعددة بما فيها نحن البشر، واذا كنا نشعر بحياتنا في هذا الكون فعلينا ان نقدر نسخة أخرى مضادة لنا في كون آخر، مثل ان نكون فيه ميتين شبيهاً بالقطة الحية الميتة، واذا ما متنا فعلينا ان نقدر بأن لنا نسخة أخرى ستكون حية، واذا ما صادف بعضنا ان التقى بنسخته المضادة فعليه ان يقدر ان إحداهما ستفني الأخرى ضمن إنفجار هائل، فهذا التلاقي هو شبيه بتلاقي الإلكترون مع ضده البوزيترون.