ان ابرز النتائج المتخلفة عن نظريتي النسبية والكوانتم تشير إلى تناقض تصورهما لطبيعة هندسة الواقع وما ينطوي عليه من خصائص. فبينما ترى النسبية العامة ان للواقع إنحناء هندسياً رقيقاً لشكل الفراغ، وانه ينطوي على نسيج ناعم فيخلو من التجعدات والثقوب والتمزقات أو القطع المنفصلة أو الملتصقة ببعضها، ترى نظرية الكم أنه على المستوى المجهري المايكروسكوبي للعالم توجد طبيعة يشوبها الاضطراب الكمومي والتشوه الذي يحطم المكان الهندسي الناعم التحدب، وان هناك تمزقات هي صفة مجهرية شائعة في نسيج الفضاء، وقد تكون ثقوباً دودية، كما هناك تموجات عنيفة في المسافات القصيرة، ويقدر البعض ذلك في المسافات الاقل من طول بلانك (10-33 سم). فكلما كان المدى المكاني صغيراً كلما زاد الارتياب في الطاقة حتى تصل إلى درجة كبيرة لصنع ثقب اسود صغير، كما هو الحال في مسافة بلانك أو ما دونها. فالعلاقة بين حجم المكان والتأرجح في الطاقة هي علاقة عكسية، إذ تزداد الاخيرة عند نقصان الأولى، وكذا العكس. فالفضاء الخالي يصبح بحراً لا نهائياً من الثقوب السوداء التي تظهر وتختفي في زمن قصير جداً، وبالتالي لم يعد لمفهوم الفضاء معنى أنه مصنوع من نقط أو اتصال.
ووفقاً لحسابات الكوانتم فإن قدر كمية الطاقة في سنتمتر مكعب واحد هو أكثر من طاقة مادة الكون المعروف كلها. وهذه الكمية الضخمة جعلت بعض الفيزيائيين يعتقدون بأن هذا البحر اللانهائي للطاقة هو مجرد وهم ناشئ عن خطأ في الصيغ الرياضية لنظرية الكم.
هكذا فإن مكمن التناقض يظهر في خواص النسيج الفضائي للمسافات التي تعادل طول بلانك أو اقل منه. فلو قمنا بتكبير المسافات المجهرية لظهر عند التكبير شكل رغوي هائج ملتوي يسمى الرغوة الكمية. فهذا التشوه الذي يتحدث عنه رجال الكوانتم جاء على خلاف الشكل الهندسي الفضائي الهادئ كما هو محور تفكير النسبية العامة. فالصورة المنتظمة عن بعد والمشوهة عن قرب هي حال ما يحدث لنسيج الزمكان. فبحسب المسافات الكبيرة تبدو الصورة منتظمة وتنطبق عليها النسبية، أما في المسافات المجهرية فهي مشوهة وينطبق عليها ما تقوله نظرية الكوانتم. إذ يفقد الزمكان عند هذه المسافة صفته كمتصل، وهي ما يطلق عليها ويلر (ما قبل الهندسة)، حيث ينشطر فيها الزمكان. ويتلاشى الزمن ويتوقف عند هذه المسافة البالغة الصغر، في حين أنه لدى النسبية ان الزمن منبسط منذ الإنفجار العظيم فكيف يتوقف أو يتواثب.
وتبدو هذه الاثار المتناقضة عند أخذ الجاذبية بعين الاعتبار، فطبقاً للنسبية فإن الجاذبية في الفضاء الخالي تساوي صفراً، إلا أنها لدى الكوانتم وان كانت قيمة المجال المتوسطة مساوية للصفر لكن القيمة الفعلية تتأرجح للاعلى والاسفل نتيجة التأرجحات الكمية.
فمبدأ عدم اليقين والتحديد ينبئنا بأن مدى التأرجح في مجال الجاذبية يزداد كلما زاد تركيز انتباهنا على مناطق أصغر في الفضاء. إذ لا شيء يفضل البقاء محصوراً في مكان ضيق، لذا يؤدي تضييق الفضاء إلى مزيد من التأرجحات. فالفضاء الخالي يحوي من الطاقة ما تولد حقولاً أو مجالات للخلق والفناء. إذ تُقدر الجسيمات التقديرية بأنها تدور بهياج وتنبثق لحظياً إلى الوجود ثم يلاشي بعضها بعضاً. ويحدث هذا السلوك ايضاً في منطقة الفضاء المجاورة لأفق حدث الثقب الاسود. فكما بيّن ستيفن هوكنج بأنه في حالة الثقب الاسود يحدث بفعل الظاهرة الكمومية خلق الازواج الإفتراضية وهي الجسيمات واضدادها التي تُخلق باستمرار من الفراغ وللحظة قصيرة جداً ثم يُفني بعضها بعضاً بعد الخلق مباشرة دون ان تترك أي أثر. لكن قد يحدث ان يبتلع ثقب اسود أحد جسيمي الزوج قبل تفانيه مع قرينه وان يتمكن الآخر من الافلات، وتولّد هذه الظاهرة ما يُعرف بالشعاع الهوكيني.
ويستند موقف الكوانتم من تأرجحات الفضاء إلى الإشعاع الذاتي للعناصر غير المستقرة كاليورانيوم، حيث ان نسبة تحلل الذرات فيه هي 50% دون ان يعرف من هي الذرات التي تتحلل ومن هي التي تبقى. فكذلك الحال مع تأرجحات الفضاء، فالفراغ يبعث على انتاج الطاقة والجسيمات من ذاته دون سبب خارجي وفقاً للتأرجحات وشبيهاً بتحلل المواد المشعة غير المستقرة.
لكن يُعتقد اليوم ان الفضاء الخالي ممتلئ بطاقة عظيمة تدعى الطاقة الداكنة أو المظلمة، وهي تشكل ما يقارب ثلثي ما موجود في الكون، وقد تكون مسؤولة عن خلق الجسيمات التقديرية، رغم ان التصور السابق كان يفترض بأن الفراغ يعمل على خلقها وافنائها تلقائياً دون سبب خارجي. فالفراغ متفجر بالطاقة وممتلئ بمثل هذه الجسيمات التي لا تدوم إلا للحظات ضئيلة للغاية، ويسمى ظهورها وفناؤها بالتفاوتات الكمومية للفراغ (quantum vacuum fluctuations)، أو رغوة الفنجان وزبد الزمكان (Spacetime foam) بحسب الاصطلاح الذي صكّه الفيزيائي الأمريكي جون ويلر. فهي صنيعة الفراغ الوهمي أو الزائف (false vacuum)، وتمر مروراً عابراً من دون ان تُشاهد، فكل ما يمكن مشاهدته ورصده هو آثارها، لذلك فهي لا تعلم إن كانت موجودة حقاً أم لا؟ وبالتالي يطلق عليها التقديرية، وأحياناً الوهمية.
والغريب ان الكثير من الفيزيائيين يعتقدون ان الطاقة المظلمة وليدة هذه الجسيمات الافتراضية، رغم ان طاقة الفراغ التي تولدها الجسيمات الافتراضية ضعيفة جداً بحيث لا تكفي ان تكون مسؤولة عن الطاقة المظلمة الضخمة. كذلك يرد الإشكال: لماذا لم تتهيء فرصة توليد الطاقة المظلمة على يد هذه الجسيمات بداية الكون، رغم انها كانت متوفرة بكثرة رهيبة؟. هذا بالاضافة الى انه لا يمكن للجسيمات المذكورة ان تتولد من دون طاقة سابقة، فما هو نوع هذه الطاقة التي تعمل على خلقها؟
وقد يكون المعنى السابق حول علاقة الفراغ بالخلق والنشوء ثم التلاشي مقارباً لما يقوله الصوفية حول سلسلتي النزول والصعود أو الخلق والفناء أو الحلول والاتحاد، كالتي يعرضها صدر المتألهين بجدارة، متجاوزاً بذلك فكرة العلية لصالح وحدة الوجود العرفانية. فلحقيقة الوجود قابلية على الإنبساط والقبض، فإنها من حيث إنبساطها يحصل ما يطلق عليه النزول والخلق والصدور، وهو أشبه بالحلول، لكنها من حيث إنقباضها يحصل ما يطلق عليه الصعود والعودة والموت والفناء والإتحاد. فهي في كل آن أزلاً وأبداً في بسط وإنقباض، ونزول وصعود، وحلول وإتحاد... الخ. وبعبارة أخرى تجري حالتا الصعود والنزول بنوع من الاستمرارية والصيرورة نحو الكمال. فالحركة الجوهرية في الطبيعة لا تفني شيئاً إلا وتجدد في قباله شيئاً آخر عبر تزامن (الخلع واللبس). وما يحصل من فناء في هذه العملية لا يمثل العدم، بل هو عين الكمال والالتحاق من صورة الطبيعة إلى صورة أرقى منها عن طريق الإتحاد حسب قانون «السنخية»، أي من عالم (العقل السافل) إلى عالم (العقل العالي)، أو من عالم الشهادة والدنيا إلى عالم الغيب والآخرة. كما ويتزامن مع هذا القوس من الصعود قوس آخر للنزول والخلق، فمع فناء وصعود كل صورة أو «حادثة» من صور وحوادث الطبيعة، تحصل حالة خلق ونزول للصور التي يفيضها العقل من سماء التجريد إلى أرض الطبيعة، وبذلك تتم ظاهرة الديمومة بالصعود والنزول على نحو التجديد والكمال إلى ما لا نهاية له، فالحركة مستمرة، والتحول والفيض سار أزلاً وأبداً من دون إنقطاع، والحوادث دائبة على الحدوث والفناء، أو الخلق والكمال.
على ان الكوانتم فشلت في تضمنها للجاذبية بسبب التأرجحات العنيفة في النسيج الفضائي لدى المسافات الاقصر من طول بلانك. ويظهر اثر التناقض بينهما عند فهم ما يحدث للزمكان والمادة عند الكتل الهائلة والحجم الضئيل جداً، مثلما هو الحال عند لحظة الإنفجار العظيم المعبر عنها بالمفردة، وتقدر بزمن بلانك (10-43 ثانية)، ومثل ذلك بالقرب من النقط المركزية للثقوب السوداء. إذ ان الاحجام الضئيلة المجهرية ينطبق عليها ما تفيده نظرية الكوانتم، في حين ان الكتل الضخمة ينطبق عليها ما تقوله النسبية العامة. أما عند جمع هاتين الصفتين وهي الكتل الضخمة مع الاحجام المجهرية فهذا ما يبعث على التناقض، ويصبح من المتعذر التعامل مع النظريتين كأمرين مستقلين، لان كل نظرية لها رؤيتها المختلفة في تحديد الموقف. ومعلوم ان العلماء يرجحون ما تقوله الكوانتم على ما تراه النسبية في مثل هذه الظروف.
لذا قيل بأن النسبية العامة تنهار عند الإنفجار العظيم باعتبارها لا تتوافق مع نظرية الكم القائمة على مبدأ عدم اليقين والعشوائية والنرد والمصادفات. ومع ان أينشتاين لم يأخذ بفكرة الإنفجار العظيم مأخذ الجد، إلا ان تقدير ما تفترضه النسبية هو ان الإنفجار العظيم قد بدأ من حجم ولحظة الصفر، بمعنى ان الإنفجار خلق فجائياً من العدم دون فضاء ومادة وزمان، وانه لو تقلص فسيعود إلى الصفر بلا حجم ولا مادة ولا زمان، لكن العلماء يرجحون ما تتضمنه الكوانتم وانها تبطل ما تراه النسبية.
فمثلاً ترى نظرية الأوتار الفائقة بأن الكون لا يمكن ان ينضغط إلى حجم اقل من طول بلانك في أي بعد من ابعاده الفضائية، وان انكماش العالم لا يصل إلى حد الصفر، فعند وصوله إلى طول بلانك فإنه يعود للتمدد بسبب الالتفاف الحاصل في الأوتار، فمحاولات التقلص أكثر تؤدي إلى التمدد. وبهذه المحاولة ظنت ان من الممكن القضاء على التناقض الحاصل بين النسبية والكوانتم. إذ تعتمد الكوانتم على إفتراض الجسيمة النقطة التي تدور حولها التأرجحات الفضائية في المستويات التي هي اقل من طول بلانك، وبالتالي فهي تؤكد وجود هذا الاضطراب والتشوه في النسيج الفضائي خلافاً للنسبية، في حين ان الحل لدى نظرية الأوتار الفائقة هو ان هناك حدوداً للدقة التي يمكن من خلالها اختبار الكون، ففي اقل من طول بلانك يصبح التناقض واضحاً وفقاً للجسيمة النقطة التي تفترض التشوهات في النسيج الفضائي، في حين أنه بحسب نظرية الأوتار فإنه لا يمكن معرفة ان كان هناك تشوهات فيما هو اقل من طول بلانك، فللوتر كبر بحيث لا يتأثر بالتموجات العنيفة في المستويات الاقل من طول بلانك لدى النسيج الفضائي، هذا فيما لو كان هناك بالفعل مثل هذا الاضطراب والتأرجحات كما تفترضها نظرية الجسيمة النقطة التي تفتقر للامتداد المكاني، وبالتالي فهي تفترض ان التموجات الكمية العاصفة المفترضة في مستوى اقل من طول بلانك ليس لها وجود، فالوتر هو أكثر الاشياء اولية في الكون، ولانه من الكبر فإنه لا يتأثر بمثل هذه التموجات العنيفة المفترضة ومن ثم لا يمكن قياسها وبالتالي فهي غير موجودة طالما لا يمكن معرفة ذلك.
فهذا التصور ينافي القاعدة المنطقية القائلة: ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. لكنه يتفق مع قاعدة الاصوليين القائلة: لو كان لبان!