من المعلوم ان الكائن المجهري يتصرف بسلوكين مختلفين تماماً، فتارة يتصرف بما يشبه الجسيم، واخرى بما يشبه الموجة، وهو ما جعل الفيزيائيين يولونه الكثير من التأويلات الرياضية والخيالية، فما يتصرف به يبدو متناقضاً ومحيراً، ومن ثم لم تعرف حقيقته على ما هي عليه حتى يومنا هذا. ويمكن تصنيف هذه التأويلات للسلوك الغريب لهذا الكائن إلى اتجاهين اساسيين، أحدهما يغلب عليه الطابع الجسيمي، والآخر على عكسه في ميله للطابع الموجي، مع محاولات التوفيق بينهما ضمن مثنوية حقيقية.
فحول الاتجاه الأول ذي الطابع الجسيمي نجد رؤى ومذاهب متعددة حاولت فهم طبيعة وصف هذا العالم ومعرفته، وكان من ابرز من ركز على هذا الاتجاه ماكس بورن وهايزنبرغ، إذ اعتبرا المادة جسيمات لا تخضع للطريقة المألوفة من قوانين السببية والحتمية. وقد ظهرت مذاهب عديدة وفق هذا التصور الجسيمي. فالبعض رأى ان هناك عجزاً عن معرفته كلياً، بمعنى ان الجسيم غير قابل للفهم ولا يمكن تطبيق المفاهيم التقليدية عليه من الموضع والسرعة وما اليها. ورأى بعض آخر باننا نتعرف على الجسيم من خلال تأثيرنا عليه عبر الادوات القياسية التي نقيسه بها، وكل ذلك يؤثر على وضعيته، مما يجعل معرفته كما هي ودون تأثير عملية مستحيلة، كالذي ذهب اليه نيلز بور واتباعه؛ وهو ان الواقع الكمومي مجهول، وكل ما نحصل عليه هو قياساتنا عنه. رغم ان نيلز بور لا يكتفي بتحديد الكائن المجهري بخاصيته الجسيمية، بل يضيف إلى ذلك ما يكملها من الخاصية الموجية كما سنرى. لكن في جميع الاحوال ان هذه النظرة التي تؤكد على عدم امكانية معرفة الواقع كما هو في ذاته؛ تقترب من الصورة التي سبق ان ذهب اليها عمانوئيل كانت. وقد يعبّر عن هذا الموقف أحياناً بأن وصف الجسيم غير مألوف في مثل هذه الحالة، حيث يتصف بطبيعة عشوائية وصدفوية محضة، بحيث لا يمكن تحديده وتعيينه قبل الكشف.
كما رأى اتجاه ثالث عكس ما رآه الثاني، وهو ان هناك نظاماً خفياً ضمن البنية العميقة للكوانتم. فالفيزيائي دويين فارمر يتقبل، حتى ما يعتبره معظم الفيزيائيين هرطقة مطلقة، الايمان بأن الحوادث الكمومية قد لا تكون عشوائية في الواقع، فالمرء إذا تطلع بعمق كاف فإنه سيكتشف نظاماً خفياً.
أما الاتجاه الآخر للكوانتم فقد سلّم بالطابع الموجي كأساس، وبعضهم نفى ان يكون الواقع الحقيقي للعالم المجهري مؤلفاً من جسيمات. حتى يُذكر بأن الكثير من الفيزيائيين أخذوا يرتابون بوجود الجسيمات، فربما كانت الموجات قد خلقت ليتداخل بعضها مع بعض لتصنع بهذا التداخل جسيماً. وقد تم الاعتماد في ذلك على ما توصل اليه دي بروي من ان كل جسيمة يقودها موجة مرتبطة بها، وان طول موجي واحد للإلكترون مثلاً هو عندما يكون اقرب للنواة، ومن ثم طولين موجيين في المدار الذي يليه وهكذا.. فاستناداً إلى دي بروي قام شرودنجر بتطوير النظرية وتحويلها إلى صياغة رياضية متماسكة، فاصبح لديه ان موجة الإلكترون يمكن وصفها في كل وقت بقائمة أعداد، عدد واحد لكل نقطة من الفضاء ضمن الذرة أو حولها، وتسمى تابع الموجة. أما هذه الأعداد فتسمى بقيم تابع الموجة. فقد رفض شرودنجر جسيمية الإلكترون ورأى أنه موجة، كما رفض القفزات التي تؤكدها نظرية الكوانتم للجسيم طالما أنه موجة فحسب، وبالتالي فإنه لا يميل إلى ذرة بور، بل إلى موجة دي بروي. وطبيعة الموجة لدى شرودنجر تتصف بالامتداد الواسع دون تموضع في نقطة محددة، خلافاً للجسيم الذي يتصف بالتموضع.
وبالفعل حاول شرودنجر الاحتفاظ بالمفاهيم الفيزيائية التقليدية سهلة الفهم عبر مصطلحات الموجات المألوفة التي تعود إلى أفكار القرن التاسع عشر، وحارب حتى النهاية ضد أفكار عدم التحديد والقفز اللحظي للإلكترونات. فقد ظن أنه تخلص من القفزات الكمومية عبر ادخال الموجات الانسيابية المتصلة، فكان يتصور انتقال الجسيم كالإلكترون مثلاً بأنه انتقال من مستوى طاقة إلى أخرى كشيء مشابه لتغير اهتزاز وتر الكمان من نوتة إلى أخرى، وهو يرى ان الجسيمات مجرد تجليات للموجات التحتية. كما قام بتأويل تصادم الجسيمات نفسها وهو أنها تختفي في كل الاتجاهات. لكن لوحظ بأنه لم يكن لهذا التأويل معنى منطقي، وقد حاول ماكس بورن توجيهه تبعاً لتأويل قائم على التأويل السابق نطلق عليه (التأويل المركب)، وهو ان الموجات المنتشرة التي تغادر مشهد الصدام لا تصف جسيمات حقيقية بل تصف احتمالاتها. فوجود الجسيمات يتحدد احتماله بقوة الموجة. لذلك فمعادلة شرودنجر لا تنتج موجة كلاسيكية. ففي حالة الإلكترون في الذرة ان الموجة لا تمثل كتلة أو شحنة منتشرة مادياً، بل احتمال العثور على الإلكترون هنا أو هناك. لكن هذا التأويل المركب لبورن – وهو تأويل معتمد على تأويل شرودنجر نفسه – لم تثر اهتمام إلا القليل من الفيزيائيين، وكان بورن يشعر بمرارة هذا التجاهل أو عدم الاهتمام.
ورغم أنه تبين بأن هناك تكافؤاً مدهشاً بين التأويلين الجسيمي والموجي، كالذي اكتشفه شرودنجر وباولي وايكارت، وكذلك ما اعترف به هايزنبرغ في مقدمة كتابه (المبادئ الفيزيائية) من وجود التكافؤ التام بين مفهومي الجسيم والموجة، أو ما يُعرف بالمصفوفة وميكانيكا الموجات، لكن ظهرت ثغرات في التأويل الموجي لشرودنجر، ومن ذلك ان هناك ظواهر دلت على السلوك الجسيمي فكيف يمكن تفسيرها عبر الموجات؟ مثل ظواهر التفاعل الكهروضوئي التي التفت اليها أينشتاين في تفسيره الكمومي للضوء، وهو ما اعترض به هايزنبرغ على شرودنجر، إذ ان امتصاص الشعاع وانبعاثه لا يجري وفق عملية مستمرة، بل وفق وحدات غير منقسمة هي المطلق عليها الكموم أو الفوتونات. ومثل ذلك فإن كل جسيم يحتاج إلى ثلاثة أبعاد مكانية خاصة به، ولوصف إلكترونين فإنه يتطلب فراغاً سداسي الأبعاد وهكذا، ففي وصف لذرة الهايدروجين يكون التفسير طبيعياً بوجود ثلاثة أبعاد، لكن بوصف لذرة ذات إلكترونين – مثل الهليوم - فإنه يكون لكل إلكترون ثلاثة أبعاد وبالتالي ستة ابعاد، ولذرة مثل ذرات العناصر الثقيلة كاليورانيوم ستكون لدينا قائمة بابعاد تساوي المئات، يضاف إلى ان موجة شرودنجر تتسع وتكبر إلى درجة أنها تمتد إلى مجرة، وهو امر قد تحفظ منه أينشتاين الذي كان يوالي التفسير الموجي بدل قفزات الجسيم غير المحددة. وبالتالي فقد اعتبر الأخير ان كلا التأويلين الموجي والجسيمي خدعة وحيلة، وهما بحاجة إلى اصلاح أو بديل، مثلما كان ماكس بورن يرى ان ميكانيكا الجسيمات لدى هايزنبرغ مؤقتة وتحتاج إلى بديل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
أما النقطة المركزية للاعتراض فهي أنه حتى في حالة استخدام التأويل الموجي فإن الحاجة للقفزات الكمية تظل واردة دون اختلاف، وهو امر اعترف به شرودنجر ذاته فعبّر عن هذه المعضلة بقوله: ‹‹لو كنت اعلم اننا لن نتخلص من عملية القفز الكمية اللعينة لما اقحمت نفسي في هذا العمل››.
كذلك يلاحظ بأن موجة شرودنجر في الكوانتم هي شيء تجريدي دون ان يكون لها حقيقة في الفراغ. إذ تحتوي على عدد تخيلي (Á)، لذلك فهي غير قابلة للقياس، وقد قام بور بتأويلها إلى موجة احتمال، فهي ليست كموجة الماء أو الصوت ذات الأبعاد الثلاثية الحقيقية، بل موجة رياضية مجردة. وبالتالي ذهب هذا الاتجاه إلى التجريد الرياضي الذي يتعالى عن معرفة الواقع الموضوعي، فما موجود لا يزيد عن التعابير الذهنية التي لا تعكس حقيقة الواقع بشيء. فالموجات ليس لها وجود مادي أو حقيقي مستقل، أو أنها ليست من مكونات الطبيعة، وانما ذكرت لتقريب فهمنا للطبيعة، أو لتكون نظرية الكوانتم قابلة للفهم رغم الإعتراف بغموض الموقف وضبابية التصور.
فالتحديد الرياضي للموجات ثابت لا يتغير، خلافاً للصورة الفيزيائية المتخيلة عنها فهي ليست ثابتة على الدوام. فمع ان الصورة الجسيمية قد تخلت تماماً لصالح الصورة الموجية، لان تنبؤات الاخيرة صادقة، في حين ان تنبؤات الصورة الجسيمية يمكن ان تصدق أو لا تصدق، وعند التعارض يصبح من الطبيعي التعويل على الصورة الموجية، لكن الاخيرة ظلت مجرد تركيبات ذهنية خالصة لا تعكس حقيقة الواقع المجهول، وهو واقع منظور اليه ابعد ما يكون عن التصور المادي.
وطبقاً لذلك اعتقد الفيزيائي جيمس جينز بأنه عندما لا توجد معرفة انسانية فلا وجود للموجات لكونها ليست جزءاً من الطبيعة، وانما من محاولاتنا لفهمها. ويشمل الحال جميع القوى الكهربائية والمغناطيسية فهي ليس لها وجود دون الإنسان أو الذات العارفة، بل أنها – بحسب رأيه - من ابتكار عدد من العلماء: هايجنز وفرزنل وفاراداي وماكسويل.
مع ذلك فقد قدّم فينمان تفسيراً جديداً لحركة الجسيم كالإلكترون من خلال الشقين معاً، واعتبر ان من الممكن ان يمر الجسيم من كل طريق ممكن حتى أنه يصل إلى مجرة ما ثم يعود ليمر من الشق، وهو بذلك يفسر الإلكترون كجسيم دون حاجة للتفسير الموجي أو الموجات الاحتمالية المصاحبة للإلكترون، فكونه جسيماً فإنه يمر بكافة الطرق والمسارات الممكنة وهي مسارات لا نهائية. وقد أظهرت الحسابات الرياضية ان طريقة فينمان متفقة مع طريقة الدالة الموجية أو احتمالية الموجة. لكن تظل معرفة حقيقة واقع العالم المجهري للإلكترون أو غيره عصية على التحديد إلى يومنا هذا.
مع ذلك فالمتعارف عليه وسط العلماء هو انهم لا ينكرون المثنوية التي يتصف بها الكائن المجهري، وان ترددوا حول الاساس بينهما، ومن ثم الاشتغال وفقاً لأحد التأويلين. وقد دفع ذلك نيلز بور إلى ان يعلن عن مبدئه الخاص بالتتام كما سنعرف.
إن ما سبق يبدي بأن هناك نزاعاً بين التأويلين الجسيمي والموجي للكائن المجهري؛ سرعان ما تطور إلى ما يُعرف بنزاع ميكانيكا المصفوفات والموجات. فبنظر أينشتاين مثلاً تعد المصفوفات معقدة وغامضة، ورغم أنه معجب بنظريات (ايزنبرغ – ديراك) لكنه رأى ان الواقعية لا تنبعث منها، وبالتالي فقد فضّل عليها منطق ميكانيكا الموجات لشرودنجر، ربما لان الأخير مال إلى جعلها متصلة غير متقطعة ولا متقافزة، وبالتالي فهي حتمية بالمعنى التقليدي التي يتم فيها تحديد الشيء دون حاجة للاستعانة بالمعنى القوي لمبدأ عدم اليقين والتحديد، طالما أنها تعبّر عن الاتصال الانسيابي على عكس فوضى القفزات الكمومية. ومع أنه كان التفضيل في البداية لميكانيكا الموجات على ميكانيكا المصفوفات، إلا أنه سرعان ما تبين انهما مجرد تمثيلين رياضيين مختلفين ومتكافئين من بين صور تأويلية أخرى ممكنة وغير متناهية لنفس الظاهرة.
لقد استخدمت المصفوفات لمعالجة الجسيمات، وهي الطريقة المفضلة لدى هايزنبرغ مقارنة بميكانيكا الموجات لشرودنجر، لكن ظهرت محاولات أخرى منافسة للمصفوفات وهي ما تُعرف بنظريات الحقل الكمومية، والتي تؤكد على ان الجسيمات ينظر اليها بأنها تموجات ضمن المجال أو الحقل الكمومي. وهو ما جعل التنافس بين النظريتين قائماً، وقد نجحا في ميادين مختلفة لدى العالم المجهري، فالاولى نجحت في وصف التفاعلات القوية للجسيمات، في حين نجحت الثانية في التطبيق على التفاعلات الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة، ومن بين نظريات الحقل هناك النظرية القياسية التي جعلت من الممكن توحيد التفاعلات الكهرومغناطيسية والضعيفة وفهمها فهماً رياضياً مناسباً.
ويشير اسم المصفوفة إلى عمليات تصادم وبعثرة الجسيمات عند التفاعل. وهي مجموعة من الاحتمالات لجميع التفاعلات الممكنة التي تشتمل عليها جسيمات الهادرونات. والمفهوم الجديد للمصفوفة هو نقل التأكيد من الاشياء إلى الأحداث، فالاهتمام ليس بالجسيمات وانما تفاعلاتها. فمخططات المصفوفة ليست مخططات مكانية زمانية، بل توصف بحسب سرعة الجسيمات أو كمياتها الحركية الداخلة والخارجة، فعندما يتصادم جسيمان ينتج عنهما جسيمان آخران، وهو ابسط حالات الصدام، وتتناول المصفوفة عمليات لأعداد كبيرة من هذه الجسيمات، وهي تختلف عن نظريات الحقل، كما هو حال مخططات فينمان التي لا تصور التفاعل المفصل، بل تهتم ببداية تفاعل الجسيمات ونهايته فقط. وبالتالي فالمصفوفة تتضمن معلومات اقل كثيراً من مخططات فينمان. وللمصفوفة خاصية هي كونها لا تقبل الترتيب في الضرب أو التبديل. وقد عرفها هايزنبرغ من استاذه ماكس بورن كما نص الأخير على ذلك، إذ اكتشف بورن ان للمصفوفات الرياضية علاقة بالمتغيرات الكمية في عالم الكوانتم للزخم والموقع. وقد بدت المصفوفات ملغزة وغير مألوفة لمعظم الرياضيين والفيزيائين (عام 1925)، فبدت خاصية عدم التبادل غريبة مثل غرابة ثابت بلانك كما ظهر أول مرة (عام 1900)، فبحسب عدم التبادل الذي اتى به هاملتون فإن ضرب (م) في (ح) لا يساوي ضرب (ح) في (م). لذلك لم تحظ ميكانيكا المصفوفات بالترحيب لدى العلماء لاسباب عديدة، منها كونها معقدة وعائدة إلى فرع في الرياضيات لم يتعودوا عليه. وقد سعى باولي لتطبيق المصفوفات على بعض القضايا الفيزيائية ليكشف عن فائدتها واهميتها، وقد امتن هايزنبرغ لذلك. وكان ديراك على علم بأن خاصية عدم التبادل التي اشار اليها هايزنبرغ موجودة كفرع من الرياضيات قد طورها هاملتون خلال القرن التاسع عشر، وبالتالي اثبتت معادلات هاملتون فائدتها في نظرية الكم.
أما نظرية الحقل فهي تصف التفاعلات الكهرومغناطيسية بين الإلكترونات والفوتونات بشكل رائع، لكنها اقل اهلية لوصف الجسيمات المتفاعلة بقوة. إذ تم اكتشاف المزيد والمزيد من هذه الجسيمات فتحقق للفيزيائيين أنه من غير المقنع ربط كل منها بحقل اساسي. وعليه كانت فكرة المصفوفة هي المناسب للوصف كما في وصف الهادرونات وتفاعلاتها القوية. لذلك فإن المصفوفة تتجنب الصعوبة التي تمنى بها نظريات الحقل الكمومية. فالنتائج الحاصلة من نظرية الكم والنسبية تجعل من المحال تعيين مكان التفاعل بين جسيمات محددة. وفي نظرية تجمع بين الكوانتم والنسبية لا يمكن تخصيص موقع الجسيمات الفردية بدقة. فعندما تكون الريبة في الاندفاع كما في نظرية الحقل؛ فعلى المرء ان يتعامل مع التناقضات التي هي مشكلة كل نظريات الحقل الكمومية. لكن المصفوفة تتجاوز هذه المشكلة بتوصيف كميات حركة الجسيمات وتبقي على غموض المنطقة التي يقع فيها التفاعل.