يحيى محمد
لقد ظهرت اتجاهات علمية تعبّر عن إمكانية التعويل على نظرية قبال أخرى تكافؤها، أو على مفهوم قبال آخر يكافؤه، نظراً لإعتبارات أخرى لا تتعلق بالتطابق، مثل الطريقة الاصطلاحية التي بشر بها بوانكاريه، لإعتبارات الملائمة وليس التطابق ودرجات المعرفة. وبعد ذلك ظهرت طريقة التكافؤ لأينشتاين، حول الكتلتين العطالية والثقالية، أو بين الأخيرة والتسارع، وقد وظف أينشتاين التكافؤ لحساب مقدار الجاذبية من خلال التسارع. ومثل ذلك التكافؤ بين ميكانيكا الموجات لشرودنجر وميكانيكا المصفوفات الجبرية لهايزنبرغ في عالم الجسيمات المجهرية. ومن ثم اخيراً ظهر ما يُعرف بالثنائيات أو الإزدواجيات لدى نظرية الأوتار الفائقة، أو كما صكّ ادوارد ويتن عليها مصطلح نظرية (M) خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي.
لنبدأ باصطلاحية بوانكاريه التي طبقها على الهندسة الكونية ومن ثم على الميكانيكا، وإن لم يعممها على سائر مجالات الفيزياء، واعترض على معاصره الفرنسي لي روي (Le Roy) الذي قام بهذا التعميم، ومثله ملهود (Milhaud) في تغطيته لكافة فروع وحقول النظريات الفيزيائية. فقد اعتبر بوانكاريه أنه في مجال الهندسة لا فرق من حيث التطابق والتحقيق بين الهندسة الاقليدية وغير الاقليدية، فكلاهما ليسا قبليين ولا مستخلصين عبر التجربة، كل ما في الأمر ان الذهن هو الذي يقوم بتعريف وإفتراض الحالين، ومن ثم يكون من المفضل الاعتماد على الأولى لملائمتها. لكن برتراند رسل رفض هذا الموقف معتبراً ان الهندسة الفضائية باطلاق من القبليات، أما معرفة حقيقتها ان كانت اقليدية أو غير اقليدية فهي تجريبية، وبذلك يختلف رسل حتى مع عمانوئيل كانت الذي اعتبر الهندسة الاقليدية بالذات قبلية انسجاماً مع الرؤية النيوتنية.
كما طبّق بوانكاريه نظريته في مجال علم الميكانيكا لنيوتن، فاعتبر قوانينها ليست سوى اصطلاحات يفترضها الذهن دون ان يكون لها علاقة بالقبليات ولا حتى بالتجربة. فقانون العطالة أو القصور الذاتي مثلاً لا يعد قبلياً ولا تجريبياً. وهو يستشهد على عدم قبلية هذا القانون من خلال ما اعتقده اليونانيون العقليون من ان الجسم إذا ترك وشأنه دون ما يعيقه على الحركة فإنه سيتحرك دائرياً وليس في خط مستقيم كما هو إفتراض قانون نيوتن للعطالة. وبالتالي فميكانيكا نيوتن تختلف عما كانت لدى ارسطو صاحب النزعة العقلية. كما ان القانون ليس تجريبياً، فليس هناك حادثة يمكن ان تكون بمعزل عن تأثير سائر القوى الطبيعية الخارجية.
والحقيقة هي ان قانون العطالة الدائري الذي أشار إليه بوانكاريه لم يكن لليونانيين العقليين من امثال ارسطو، بل يعود إلى غاليلو، فهو من كان يعتقد بأن الجسم لو ترك لحاله يتحرك دون أي قوة مؤثرة عليه فإنه سيستمر في حركة دائرية وبسرعة منتظمة حول الأرض دون توقف. وقد كان سانتهلير هو الآخر قد اظهر تقدم ارسطو على ديكارت ونيوتن في عدة مبادئ تتعلق بالطبيعة وحركتها، كما في قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وأولها قانون العطالة القائل: إن كل جسم إذا لم يعترضه عائق ما؛ يمكث في حالة ثبوته وسكونه، وكذا في حالة حركته التي تقع مستوية على خط مستقيم. وكذا هو الحال فيما عزاه وايتهيد لهذا القانون من العطالة المستقيمة إلى ارسطو، والتي جعلت نيوتن يكتشف الجاذبية من خلالها؛ فاذا كان من المفترض ان تكون حركة الكواكب مستقيمة وفقاً لمبدأ العطالة المستقيمة فما الذي يجعلها تتحرك حركة دورانية؟ فهذا ما كان نيوتن يفكر به، فاعتبر من خلال ذلك ان القوة المطلوبة في حل المشكل هي جاذبية الشمس بإعتبارها عظيمة. وقد كان الفلاسفة التقليديون يستنتجون من استدارة الفلك على أن له إرادة. فالإستدارة هنا ليست الوضع الطبيعي للفلك وفق مبدأ العطالة، وربما كانوا يعتقدون بأن هذا الوضع ينبغي ان يكون مستقيماً كما يُنسب إلى ارسطو، وبالتالي كانت الإرادة لتفسير الاستدارة هي الاكتشاف الميتافيزيقي الذي يقابل الجاذبية لدى نيوتن في تفسيره للدوران.
وبهذا فإن لمبدأ العطالة المستقيمة فضل على إكتشاف الجاذبية لنيوتن، وهو ما يعني عودة الفضل إلى ارسطو فيما لو ثبت انه كان يقول بذلك كما يعزى إليه أحياناً. مع انه كان يربط حركات الاجسام بالعلل المؤثرة، وهو يقسم هذه الحركات إلى طبيعية وقسرية غير طبيعية، وتتمثل الحركات الطبيعية بالعناصر الاربعة، فلكل منها ميل طبيعي، فالميل الطبيعي للنار هو للأعلى، وللارض للأسفل، وان رمي حجر إلى فوق يعتبر ميلاً قسرياً غير طبيعي مما يجعله يعود مسرعاً للأرض ضمن حركته الطبيعية وسكونه فيها، لذلك تحتاج الحركات القسرية إلى اسباب عارضة خلافاً للحركات الطبيعية، فالحجر ليس بوسعه الحركة إلى فوق من الناحية الذاتية، كما ان النار ليس بوسعها الحركة للأسفل ايضاً.. وهناك من يقول بأن ارسطو يرى بأن الجسم لا يظل محافظاً على حركته إلا إذا بقي على تماس مباشر مع محرك فاعل باستمرار، وهو ما يعود إلى الاسباب غير الطبيعية.
مع ذلك أوضح (ارنست مودي) بأن هناك صلة بين شروح الفيلسوف العربي إبن باجة على أرسطو وبين نظرية غاليلو الخاصة بالسقوط الحر، بل نسب لإبن باجة دوراً رئيساً مكّن غاليلو من تعميم نظرية بوريدان المتعلقة بالزخم أو قوة الدفع الذاتي وتحويلها إلى نظرية عامة في ديناميات القصور الذاتي أو العطالة.
وقد تعرض المبدأ الاصطلاحي لبوانكاريه إلى نقد أفضى إلى نشوء مدرستين من الاصطلاحية الثورية (revolutionary convntionalism) هما مدرسة البساطة لدوهيم (1905) والمنهج التكذيبي لكارل بوبر (1934). كما تعرّض المبدأ إلى نقد من قبل ريشنباخ ومثله ادنجتون، ففي رأي ريشنباخ ان اختيار نظرية عوض اخرى لا يصح ما لم يُدعم بشيء من الدليل الخارجي؛ مثل تفسير واقعة جديدة أو معلومات تناسب احدى النظريتين دون الأخرى، وبدون ذلك تصبح النظريتان غير مختلفتين الا من حيث الاستعمال اللغوي دون الحقيقة، فهما نظرية واحدة مكتوبة بلغتين مختلفتين.
لكن هذا النقد يتلاشى عندما ندرك ان الخيار المشار إليه مسموح به في ظل التساوي بين المفاهيم أو النظريات من دون ترجيح، خلاف ما عليه حقيقة الواقع الموضوعي، كما يتبين من مبدأ تكافؤ أينشتاين بين التسارع والجاذبية والذي يلعب دور المحور الرئيسي في النسبية العامة بإعتبارها تتعلق بالتسارع خلافاً للنسبية الخاصة. ويعني هذا المبدأ عدم القدرة على التمييز بين الحركة المتسارعة والجاذبية، لكون كل منهما يضغط على الجسم. ففي غرفة مغلقة (مصعد) سوف لا يُعرف إن كان هذا الضغط هو بسبب تسارع حركة الغرفة أم بسبب الجاذبية. وقد سُعد أينشتاين حينما توصل إلى معرفة هذا التكافؤ، إذ الجاذبية شيء غامض خلافاً للتسارع، لذلك جعل من التسارع مقياساً لفهم مماثل للأولى. فمثلما يحصل تباطؤ في الزمن في حالة التسارع فإنه يحصل تباطؤ مكافئ في حالة الجاذبية، كذلك مثلما يحصل إنحناء المكان لدى أحدهما فإنه يحصل ذات الشيء لدى الآخر. وبالتالي يمكن القول ان التسارع يفضي إلى إنحناء المكان والزمان، وان الجاذبية تعطي ذات هذا المعنى من انحنائهما. كما أنه من حق المتسارع ان يرى نفسه ساكناً وان القوى التي يشعر بها هي نتيجة مجال الجاذبية، وكذا العكس حيث من حق الساكن ضمن مجال الجاذبية ان يرى نفسه متسارعاً في الحركة. وطبقاً لهذه النسبية فإنه في حالة سقوط مصعد سقوطاً حراً يرى الراصد الخارجي للمصعد ان السقوط ناتج عن حركات غير منتظمة نتيجة التثاقل في الجاذبية أو الكتلة الثقالية، فهناك تسارع مستمر. في حين يرى الراصد الداخلي ان الأمور ساكنة ومنتظمة تبعاً للكتلة العطالية. والرؤية النسبية المختلفة للراصدين تنعكس فيما لو تم سحب المصعد بقوة ثابتة للأعلى، إذ سيكون مرجع الراصد الخارجي عطالي حيث يرى المصعد يتحرك بتسارع ثابت تحت تأثير القوة الفاعلة به، وان المصعد في حركة حرة مطلقة، في حين يرى الراصد الداخلي المصعد ليس عطالياً بل هناك حقل تثاقلي يجعله مربوطاً بارضية المصعد، وكل شيء يتركه كالقلم والمنديل فإنه يسقط على ارضية المصعد المتصاعد. وكلا الرؤيتين صحيحة، إذ الحركة أما مطلقة غير منتظمة دون حقل تثاقلي كما يرى ذلك الراصد الخارجي، أو هناك سكون يتسلط عليه حقل تثاقلي كما يرى الراصد الداخلي. ومن وجهة نظر أينشتاين فإن كلا المرجعين متكافئين رغم ان الحركة لدى أحدهما غير منتظمة أو متسارعة خلافاً لما يراه الآخر. وهو ما يجعل حقل الجاذبية التثاقلي يصف الحالتين في المرجعين ممكناً، وانه مثلما يحصل الإنحناء في الحقل الثقالي فإنه يحصل مثله في حالة التسارع عند رصده من إطار مرجعي غير متسارع من دون فرق. والشيء ذاته يكون في حالة الكتلة العطالية. وبالتالي فإن ذلك يجعل التكافؤ بين الكتلتين الثقالية والعطالية متاحاً، والحال ذاته يحصل بين الثقالة والتسارع. بمعنى ان التكافؤ يحصل لدى أينشتاين في حالتين: السقوط الحر والتسارع، ففي كلاهما يحصل التكافؤ مع الثقالة. فعطالة الجسم مثل ما يبديه من مقاومة هي ذات الثقالة مثل ما يبديه الجسم من وزن. وبالتالي انهما مظهران لحقيقة واحدة من دون فرق.
ونلفت النظر إلى ما أشار إليه أينشتاين من ان غاليلو كان من الممكن ان يتوصل إلى التكافؤ بين الكتلتين العطالية والثقالية في بعض تجاربه الخيالية لولا أنه مر عليها مرور الكرام. إذ كان يدرك بأن سقوط حجر ثقيل مع شيء آخر خفيف من مرتفع تلقائياً في نفس اللحظة يؤدي إلى وصولهما إلى الأرض في الوقت نفسه. فتساوي تساقط الاجسام الخفيفة والثقيلة تعني بحسب مبدأ أينشتاين ان هناك قانوناً في الطبيعة يجعل الكتلة إذا ما عظمت فإنها تكون أكثر مقاومة للتغيير أو التسارع وهو معنى الكتلة العطالية، لكن يكافؤها ويساويها أنها تكون أكثر قابلية للجذب وفقاً لقانون نيوتن، وهو معنى الكتلة الثقالية، وهما امران متعاكسان ومتكافئان في القوة. لذلك لم يلتفت غاليلو إلى مثل هذا التكافؤ في التأثير المتعاكس بين الكتلتين.
وبحسب وجهة نظر ماكيويجو بأن العلماء منذ عصر نيوتن كانوا يعرفون التكافؤ بين الكتلتين الثقالية والعطالية، وقد إستنتج من ذلك أينشتاين بوجود تكافؤ أيضاً بين الثقالة والتسارع. ووفقاً لنظرية نيوتن فإن هذا التساوي لا يخلو من غرابة غير قابلة للتفسير، فهي ‹‹محض اتفاق مستغرب››. وان كان بحسب أينشتاين فليست العطالة ولا الثقالة مقبولة للتفسير لدى النسبية العامة. بل ان ما يؤثر هو المجال الزمكاني المنحني عندما ينحني الفضاء بفعل الكتل الموجودة فيه، ومن ثم فإن هذا الإنحناء هو ما يؤثر على مسارات الاجرام وتحركها.
وينقل ان ما سماه أينشتاين بمبدأ التكافؤ قد سبق إليه ارنست ماخ باكثر من عشرين سنة، كما استخدمه بوانكاريه بعده في كتابه (العلم والفرضية). وربما يقصد بالتكافؤ لدى ماخ هو ذلك المتعلق في تصوره حول عطالة الجسم في قبال الثقالة، إذ كان ماخ يرى ان عطالة الجسم لا تظهر إلا عندما يدور جسم فيولد قوة نابذة هي العطالة بالنسبة للنجوم الثابتة، ولو اختفت هذه النجوم لاختفت عطالة الجسم الدائر وقواه النابذة، وهو ما يسمى بمبدأ ماخ الذي تأثر به أينشتاين. لهذا تختلف العطالة أو القصور الذاتي لأينشتاين وماخ من جهة عن تلك التي لدى نيوتن وغاليلو.
ومع ان أينشتاين تبنى في البداية مبدأ ماخ، لكنه عاد وتخلى عنه. فبحسب هذا المبدأ فإن كل جسم في الكون مهما كان بعده فإنه يؤثر على الجسم الآخر لحظياً. لكن أينشتاين لم يتقبل التأثير اللحظي عن بعد، واعتبر مقاومة العطالة للتسارع بالنسبة للكتل المتباعدة يفترض وجود الأثير عن بعد. ويبدو من ذلك ان من نتائج هذه القضية هي ان الحركة يمكن ان تكون مطلقة.
وحول التكافؤ بين ميكانيكا الموجة لشرودنجر وميكانيكا المصفوفة لهايزنبرغ فهو ان ما قام به شرودنجر هو تطوير للفكرة التي اتى بها دي بروي حول التصور الموجي للجسيم كالإلكترون، إذ كان دي بروي يتصور بأن كل جسيمة يقودها موجة مرتبطة بها، وان طول موجي واحد للإلكترون مثلاً هو عندما يكون اقرب للنواة، ومن ثم طولين موجيين في المدار الذي يليه وهكذا.. ومن ثم قام شرودنجر بتحويل أفكار دي بروي حول التصور الموجي إلى صياغة رياضية متماسكة جعلت ميكانيكيته مكافئة لميكانيكا المصفوفة لهايزنبرغ. فقد استخدم شرودنجر معادلة جبرية من النوع المألوف (عام 1926)، وكان الغرض من ذلك هو انقاذ روح النسق الميكانيكي القديم بدل معادلة المصفوفات المعقدة، خصوصاً وان تصور شرودنجر قائم على الموجات المتصلة دون انقطاع كما هو التصور الخاص بالمصفوفات. لذلك فإنه يمكن تفسير مبدأ عدم اليقين والارتياب لهايزنبرغ في الحالتين الموجية والجسيمية.
ومع ان لديراك محاولة للتنويع تجعل من نظريته شاملة في تفسير الظواهر الكوانتية، إذ الجبر الكمي الخاص به يتضمن كلاً من المصفوفات والموجات كحالة خاصة، وهو أكثر أناقة وجمالاً بحسب المعنى الرياضي، لكن مع ذلك فقد اختار فيزيائيو العشرينات من القرن الماضي موجات شرودنجر الاكثر الفة من المعادلات، رغم أنها تعاني من مشكلة اللانهائيات، والتي تم تطبيعها عبر بعض الحيل الرياضية. في حين اعتبرت طريقة المصفوفات حتى تلك التي طورها ماكس بورن ومعاونوه اثر هايزنبرغ خرقاء واقل ملائمة، لكنها مع ذلك فعالة.
يبقى مفهوم التكافؤ لدى نظرية الأوتار الفائقة، فقد لوحظ ان هذه النظرية تعاني من كثرة الأشكال، فليست هناك نظرية واحدة للاوتار، وإنما ظهرت خمس نظريات أساسية متنوعة، وهي تتضمن اشكالاً رياضية كثيرة للغاية، وكلها تعتمد على فكرة الأوتار، فكان لكل نظرية سمات مختلفة مثل قيمة ثابت الإزدواج والشكل الهندسي وأطوال الأبعاد الوترية والتجعد وما إليها. وبحسب ما استعرضه برايان غرين في كتابه (الكون الأنيق) فإن هذا الإختلاف كان مزعجاً للفيزيائيين الذين يتبنون الفكرة، كما أنه شكّل علامة تهافت لدى المعارضين للنظرية. لكن في المؤتمر المنعقد حول الأوتار (عام 1995) ألقى الفيزيائي المعروف ادوارد ويتن محاضرة اشعلت فتيل ما يسمى بالاوتار الثانية، مستلهماً في ذلك الأبحاث السابقة لكل من دوف وهول وتاونسند واخرين، فقد اقترح بأن النظريات الخمس المختلفة للاوتار ما هي إلا طرق مختلفة لوصف نفس الأساس الفيزيائي، فعلى الرغم من ان هذه النظريات تبدو مختلفة في بنيتها الأساسية لكنها تصف الأساس ذاته. فهي بمثابة خمس نوافذ للاطار النظري الواحد. وبالتالي وجد ان هناك أدلة متزايدة تثبت بأن هذه النظريات الخمس للاوتار ما هي إلا ثنائيات، ورأى ان هناك نظرية سادسة ستدخل ضمن هذا الهجين المختلط، وهي نظرية الجاذبية الفائقة ذات الأبعاد الأحد عشر. ومعنى الثنائية هو ان النماذج النظرية التي تبدو متباينة يمكن اثبات أنها تصف بالضبط نفس الفيزياء. فالنظرية المختلفة ظاهرياً تعكس حقيقة واحدة في الواقع، فمثلها كمثل من يعرف لغتين ويعرض نظرية ما إلى هذه اللغة أو تلك حسب ما يفرضه الواقع. فهي من هذه الناحية متكافئة، وبالتالي قد يكون تطبيق بعض النظريات على بعض الظواهر الفيزيائية أكثر ملائمة من غيرها، وكذا العكس صحيح أيضاً.
فنظريات الأوتار كلها اوصاف ثنائية لبنية أساسية واحدة، مثل الثلج والماء، فهما اوصاف ثنائية لـجزيئات (H2O). فالمسلك الإزدواجي القوي لأية نظرية من النظريات الخمس له وصف ثنائي بمدلول مسلك الإزدواج الضعيف لنظرية أخرى.فعندما تكون إحدى النظريات ذات إزدواج ثابت قوي فإنها تكون مساوية لنظرية غيرها عندما تكون ذات إزدواج ثابت صغير، والعكس صحيح أيضاً. وبحسب هذه الثنائية فإنه إذا كانت إحدى النظريتين ليس بامكانها حل معضلة معينة فإن بالإمكان التعويض عنها بالاخرى التي تساويها عندما يكون ثابت الإزدواج بينهما عكسياً أحدهما قوي والآخر ضعيف. فهي طريقة تستخدم لقياس المسافة والطاقة في حالتين، فتارة يستخدم نصف قطر دائرة (R) عندما يكون صالحاً، وأخرى يستخدم (1/R) عندما لا يصلح الأول، لكنهما متكافئان فيزيائياً أو هما ثنائيان.
ففي قياس المسافة يكون اعتماد نظرية الأوتار على الطريقة الاسهل والقابلة للتحول من الأولى إلى الثانية بحيث يضمن ان الطول لا يتجاوز اقل من طول بلانك. فنصف قطر الكون المقاس باستخدام مجسات الأوتار الخفيفة يكون دائماً أكبر من طول بلانك، وذلك عند الإنهيار الكوني إلى حجم صغير جداً. فبدلاً من الإنهيار إلى احجام أصغر من طول بلانك فإن نصف القطر عند قياسه بواسطة الأوتار الاخف يتناقص ليصل إلى طول بلانك ثم ينعكس لحظياً لينمو ويستبدل الإنهيار بالإنفجار.
ويعود السبب في إختلاف تقدير المسافة لدى الأوتار إلى الإختلاف في كتلة المجسين المستخدمين في القياس. فالوتر الملفوف حول الدائرة هو ذات طاقة دوران عالية لكن طاقة اهتزازه ضعيفة، أو العكس بالنسبة للوتر غير الملفوف. إلا ان المحصلة في الحالتين واحدة وهي نوع من التناظر.
فطاقة اهتزاز الوتر ودورانه متساويان، فطاقة الأشكال الوترية تأتي من مصدرين هما الاهتزاز والدوران، فتارة الاهتزاز عال والدوران منخفض، وتارة العكس، أي الاهتزاز واطئ والدوران عال. لكن المحصلة واحدة.
وبعبارة ثانية هناك تناسب عكسي في الطاقة بين الاهتزاز ودوران الوتر، فنصف القطر الاصغر للدائرة يتحكم بإحكام أكثر في الوتر، لذا تزداد كمية طاقة حركته. فالتناسب عكسي طبقاً للكوانتم. لكن في المقابل فإن طاقة اللف تتناسب طردياً مع نصف القطر اعتماداً على الطول الادنى لالتفاف الوتر. ومن خلال هاتين المعادلتين فإن انصاف الاقطار الكبيرة تعني طاقة دوران كبيرة وطاقة اهتزاز صغيرة، بينما انصاف الاقطار الصغيرة تعني طاقة دوران صغيرة مع طاقة تذبذب كبيرة. لكن حيث ان الخواص الفيزيائية تعتمد على الطاقة الكلية لهيئة الوتر لذا لا فرق بين هذين الشكلين السابقين، وهما بالتالي متساويان.
وعلى هذه الشاكلة ظهر في السنوات الأخيرة بأن للظواهر الفيزيائية توصيفات ثنائية، فمثلما يمكن إعتبار الجسيم يتحرك حول شيء ثابت، فكذا العكس صحيح أيضاً، وهو أنه يمكن إعتبار هذا الشيء يتحرك حول الجسيم، كإن يتحرك الزمكان حول الجسيم مثلاً. وبالتالي فالكوانتم تتيح السفر في الزمان في المجالات المجهرية. ونحن نعتبر ان التوصيفات الثنائية ما هي إلا تطوير للاصطلاحية التي نادى لها بوانكاريه مطلع القرن العشرين.
وعادة ما يشار إلى ان نظرية الأوتار تواجه مشكلتين أساسيتين، فأولاً أنها تتضمن خمس صور مختلفة. أما ثانياً فهي ان لها حلولاً رياضية كثيرة، لكل حل يتضمن عالماً له خواصه المختلفة عن الحل الاخر، لهذا عدت النظرية بأنها الاف النظريات، وهي ما لا تتلاءم مع الواقع الذي نعرفه. ومن ذلك ما تواجهه هذه النظرية من مشاكل تتعلق بثنائيات نصف قطر الدائرة (R و 1/R)، حيث انهما قابلان لوصف الكون وصفاً ثنائياً، رغم إختلاف المسافات والابعاد. فمثلاً ان شكلين من أشكال (كالابي – ياو) ذات ستة أبعاد فضائية تبدو لأول وهلة وكأنهما متباينان في وصفهما للكون إلا انهما يؤديان بالضبط إلى نفس الخواص الفيزيائية، فهما يعطيان اوصافاً ثنائية لنفس الكون.